يُعد حق السكوت مرادفاً لحق الفرد في حرمة حياته الخاصة، وهو ألصق الحقوق بشخص الإنسان، وهذا يعني حقه في ألا يقتحم أحد ذلك النطاق من الخصوصية الذي يُحيط به نفسه، ومؤدى ذلك تخويل الأفراد حق الاحتفاظ بسرية ما يريدون كتمانه عن الغير. ومن ثم فإن هذا الحق يبيح للمتهم عند استجوابه رفض الإجابة عما يوجه إليه من أسئلة، من دون أن يُؤخذ امتناعه هذا على أنه قرينة على ثبوت الاتهام ضده. وبما أن النظام القضائي في الإسلام يقوم على مبادئ مهمة يتوقف عليها بالضرورة حفظ الحقوق والحريات، وضمان العدالة للمتهمين والمتخاصمين، ومراعاة الحقوق والواجبات من دون حيف أو ظُلم أو محاباة تطبيقاً لقوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمَّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً"سورة النساء الآية 58". وبما أن حق المتهم في السكوت أثناء مراحل الدعوى الجزائية يرجع أصله إلى بعض القواعد الفقهية المهمة كقاعدة"لا ينسب إلى ساكت قول"، وقاعدة"الأصل براءة الذمة"وأخيراً قاعدة"اليقين لا يزول بالشك"، إذاً لا يوجد تعارض في اعتقادنا بين ما تقرره النظم القانونية المعاصرة من أن الأصل في الإنسان البراءة، وبين ما سبق أن قرره الفقهاء المسلمون من أن "الأصل براءة الذمة" فهما يلتقيان في المجال الجزائي، إذ يفترضان معاً بناء إدانة التهم على دليل جازم يثبت التهمة، ويرفع ما ثبت له أصل من افتراض البراءة، فمبدأ البراءة الأصلية يعني في كل من النظامين أن القضاء وسلطات الدولة كافة يجب عليها معاملة المتهم على أنه لم يرتكب الجريمة محل الاتهام، إلا إذا أثبت عليه حكم نهائي. إذاً لا فرق من حيث إقرار المبدأ بين قضاء جنائي يقوم نظامه على الأحكام الإسلامية، وبين قضاء جنائي يقوم نظامه على تبني النظريات الإجرائية الحديثة، كما أنه لا أثر لاختلاف التعبير حول القاعدة وصيغتها لدى الفقهاء المسلمين وعند غيرهم من فقهاء القانون الوضعي من حيث المبدأ على النتيجة، لكون أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.وعلى رغم أن حق المتهم في السكوت قد لاقى تأييداً على أوسع نطاق من كبار رجال القانون الوضعي ومعظم فقهاء الشريعة الإسلامية، فإن هناك قلة من شُراح القانون لا تقر هذا الحق، تأسيساً على أن من حق المجتمع أن يعرف الحقيقة، وليس من الأمور التي تتفق وطبائع الأشياء ألا يرد المتهم على الأسئلة الموجهة إليه من القاضي، إذ إن غريزة حب البقاء تقتضي منه الرد دفعاً لعقاب يمس حريته أو سلامة جسده، والمتهم الذي يؤثر السكوت على الكلام يتسبب بذلك في خلق نوع من الإحساس بعدم وجود ما يستطيع تقديمه من أدلة تنفي ما يحيط به من أدلة الاتهام، الأمر الذي سيكون له أثره في سلطة الاتهام لأنها تُغلب الموقف ذا الطبيعة الايجابية على ذلك الموقف السلبي المستمد من التزام المتهم السكوت. وأرى أن افتراض براءة المتهم يقتضي عدم مطالبته بتقديم أي دليل على براءته مما يوجه إليه من اتهامات، وهذا يعني بمفهوم المخالفة أن للمتهم الحق في التزام السكوت، وعدم الإجابة عن ما يوجه إليه من أسئلة طالما أنه غير ملزم قانوناً بإثبات براءته، فله أن يسكت إذا رأى أن السكوت خير وسيلة للدفاع، لأن السكوت يُعد استعمالاً لحق قرره له القانون. ولم يقتصر تنظيم هذا الحق وتلك الضمانة على الأنظمة الداخلية فقط، وإنما وضع نفسه في بوتقة اهتمامات المؤتمرات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان التي نظمتها الأممالمتحدة، وكان مادة خصبة للمؤتمر الدولي الثاني عشر لقانون العقوبات المنعقد في هامبورغ عام 1979. الذي من أبرز توصياته "أن المتهم له الحق في أن يظل صامتاً، ويجب تنبيهه إلى هذا الحق، ومن ثم يُعد حق المتهم في الصمت أحد مظاهر حق المتهم في الدفاع عن نفسه، فالمتهم غير مطالب بتقديم أي دليل على براءته، ومن ثم فله أن يصمت إذا رأى في ذلك خير وسيلة للدفاع عن نفسه. ... وفي القوانين الوضعية المعاصرة ذهب فقهاء القانون الوضعي إلى أنه يحق للمتهم التزام السكوت أثناء استجوابه أو مواجهته بغيره، وهذا الحق مستمد من أن الأصل في الإنسان البراءة حتى يثبت العكس، ولا يصلح الصمت مصدراً ضده. وللمتهم حق في ألا يُجبر على الكلام ضد إرادته، وله أن يسكت من دون أن ترغمه سلطة التحقيق أو المحكمة على الكلام، كما له الحق في تأجيل كلامه إلى وقت آخر، بل وله الحق في الإجابة عن بعض الأسئلة من دون البعض الآخر. بينما ذهبت بعض الأنظمة الوضعية إلى أبعد من ذلك، فمثلاً ذهب قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي إلى القول بأنه يجب على قاضي التحقيق التنبيه على المتهم إلى أن من حقه عدم الإدلاء الفوري بأي تصريح بشأن الوقائع المنسوبة إليه، ويُفهم من ذلك تحذير المتهم من مغبة الأقوال المتسرعة. كما يعني ذلك أن المتهم حر في الكلام أو الامتناع عنه أثناء مباشرة إجراءات التحقيق معه، ولا يوجد ما يلزم أو يجبر الشخص على الكلام أمام أي جهة أو سلطة، لأنه حق من حقوق الإنسان، ومن ثم فلا يجوز حمل المتهم على الاجابة عن أسئلة المحقق أو أن يجبر على أن يكون شاهداً ضد نفسه، ومن هُنا يتضح أن للمتهم حرية كاملة عند استجوابه، فله أن يجيب عن الأسئلة التي يوجهها المحقق إليه أو يمتنع عن الإجابة عنها، وكل تأثير على إرادة المتهم أثناء استجوابه، سواء لدفعه إلى الإجابة أم لتوجيهه نحو إجابة معينة يبطل الاستجواب. لذا، يجب أن تكون إرادة المتهم خالية من أدنى تأثير، إذ إن الذي يهم المحقق هو قول الحق والوصول إليه لا مجرد الكلام والتلفظ، ويجب أن يكون هذا الكلام عن رضا واختيار، فإذا أمكن إجبار الشخص على الإجابة فليس هناك ما يضمن صدقه في كل ما يذكره، ومن ثم فإننا نجد أن سلامة آراء المتهم لا يُقصد منها احترام شخصيته وحماية مصلحة دفاعه فقط، بل القصد أبعد من ذلك بكثير، ألا وهو تحقيق عدالة كاملة وإيجاد حقيقة صادقة، وهي أسمى ما يتوخى من جهاز العدالة. في نظام الإجراءات الجزائية السعودي باستقراء نصوص نظام الإجراءات الجزائية السعودي، نجد أن حق المتهم في السكوت لم يتطرق المنظم إلى تنظيمه بنصوص صريحة تُفصح عن أحكامه، ولكن بالرجوع إلى مشروع اللائحة المقترحة لهذا النظام، وجدت في إحدى فقراته ما يوحي بأن السكوت حق للمتهم في مرحلة التحقيق، وهذا ما أوردته الفقرة الثالث من المادة 2-1 من المشروع المذكور، التي نصت على أنه: "إذا التزم المتهم الصمت فيسعى المحقق بالطرق المشروعة إلى استظهار أسباب صمته، مع إفهامه أهمية أن يبدي دفوعه، وإن أصر مع ذلك على الصمت فيدون المحقق محضراً بذلك ويمضي في إجراءات التحقيق"، فإذا كان المشروع المذكور ألمح هنا إلى أحقية المتهم في السكوت في مرحلة التحقيق وهي أخطر مراحل الدعوى الجزائية، ولم يرتب آثاراً سلبية على المتهم حال سكوته، فمن باب أولى أن يكون الحق مؤكداً في بقية مراحل الدعوى كالاستدلال - والمحاكمة. ولنا وقفة مع عدم إدراج المنظم السعودي حق المتهم في السكوت ضمن نظام الإجراءات الجزائية السعودي المشار إليه، ونرى أنه عندما تجاهل المنظم هذا الحق فإنه يُعمل هُنا بالأمر وهو إباحته... ويمكن الرجوع في ذلك إلى مشروع اللائحة المقترح لنظام الإجراءات بالمادة 102/3، والمادة 100 من نظام مديرية الأمن العام، وكذلك تعميم وزارة الداخلية رقم 277/8 في 22-3-1405ه. ورقم 16/س/4343 وتاريخ 29-5-1405ه، وأخيراً التعميم رقم 10718/2ش بتاريخ 29-12-1409ه. ومن مقتضيات المحاكمة العادلة والمنشودة ألا يُجبر المتهم على تقديم دليل ضد نفسه أو الاعتراف بأنه مذنب، فمن حقه التزام السكوت، ولا يمكن اعتبار سكوته اعترافاً بالتهمة المنسوبة إليه، لأن السكوت لا يترتب عليه أي أثر، لأن الأصل في المتهم البراءة. ويُعتبر حق المتهم في السكوت من الطرق المشروعة التي يسلكها المتهم للدفاع عن نفسه، لأنه قد يجد في السكوت مصلحة كبيرة تحميه من الوقوع في الاستدراج، علماً بأن هذا الموقف قد يُطيل فترة المحاكمة، أو يجعل مركز المتهم سيئاً أثناء إجراءات المحاكمة.