في عدد الجمعة الماضي من صحيفة"الحياة"، استوقفني، محاولة الدكتور محمد صفاء العلواني، نفي أفضلية"اللغة العربية"على غيرها من"اللغات"في صفحة الواحة. وفي أثناء الموضوع يطلب العلواني من القارئ العربي عدم الحماسة الزائدة للغة العربية ويرد القول القائل بأنها أقوى اللغات وأن لها فضلاً ومزية على سائر اللغات الأخرى وكون القرآن الكريم نزل بها لا يؤهلها لأن تكون أفضل اللغات وأقواها، وقد احتج لذلك بمجموعة من الحجج والبراهين استقى بعضها من كتاب الله العزيز، ومنها قوله جل شأنه: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه. وذلك ليثبت أن العلة في نزول القرآن بالعربية هو نزوله على قوم لا يفقهون سوها فخوطبوا باللسان الذي يفهمونه حتى يتم لهم بذلك الإدراك وتحصل لهم به الموعظة. عليه نقول إن كلام أستاذنا الكريم فيه صواب إلا أنه يعلم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يبعث للعرب خاصة وأن القرآن لم ينزل على العرب من دون غيرهم، بل جاء هداية للعالمين ودستوراً لجميع المسلمين على وجه البسيطة، وأن الله تعبد الخلق بقراءته على اللغة التي أنزل بها أشرف كتبه وأعظم رسله ولا يخفى على ذي اللب ما لذلك الاختيار من قيمة معنوية، وبذلك تخرج اللغة العربية التي نزل بها من دائرة القومية لتكون اللغة الأولى للإسلام والمسلمين جميعاً من دون غيرها من اللغات. ثم من الناحية النظرية ألا ترى أن الزجاج الذي يحمل فيه الطيب أشرف مكانة وأغلى ثمناً من سائر أنواع الزجاج الأخرى، فيكف الحال بالعربية وقد صارت وعاء لأعظم كتاب أنزل على وجه الأرض. لذا تأمل يا أخي أن الله سبحانه وتعالى أمتنَّ في سورة الرحمن على جميع عباده العربي وغيره بنعمة البيان فقال جل شأنه: الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. واستعمل في ذلك المصدر البيان ليدل على أن جميع البشر يستطيعون إيصال مرادهم للسامع ويعبرون عن مكنون نفوسهم ويقضون مآربهم اليومية من خلال البيان عن المراد، ويشترك في ذلك اللسان العربي غيره، إلا أننا نجد أنه خص اللسان العربي بمزيد من البيان، وذلك باستعمال صيغة المبالغة فعيل من المصدر السابق البيان ليدل على مزيد صفة البيان والفصاحة في اللسان العربي فقال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين*نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين. وقد وصف الله سبحانه وتعالى العرب بالفصاحة والبيان وقوة الجدل من دون غيرهم من الأمم الأخرى، فقال تعالى: ماضربوه لك إلا جدلاً، بل هم قوم خصمون، وقال تعالى: لتنذر به قوماً لداً. ومن أجل ذلك جعل من معجزة القرآن الكريم تحدي هؤلاء القوم الفصحاء ذوي اللسن بأن يأتوا بسورة أو حتى بآية، ولو لم يكونوا كذلك لما كان لذلك التحدي قيمة. قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الجامع [جزء 1 - صفحة 28]: ثم عرفهم في تنزيله ومحكم آي كتابه فضل ما حباهم به من البيان على البكم والمستعجم اللسان فقال تعالى جل ذكره: أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين الزخرف: 18 فقد وضح إذاً لذوي الأفهام وتبين لأولي الألباب أن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم اللسان بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه.انتهى كلامه. قال صاحب المثل السائر [جزء 1 - صفحة 39]: فإن الواضع لهذه اللغة العربية التي هي أحسن اللغات نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة والبلاغة في ما يصوغونه من نظم ونثر، وكل لغة من اللغات لا تخلو من وصفي الفصاحة والبلاغة المختصين بالألفاظ والمعاني إلا أن للغة العربية مزية على غيرها لما فيها من التوسعات التي لا توجد في لغة أخرى سواها. ويقول السيوطي في المزهر:":"أين لسائر اللغات من السعة ما للغة العربية؟ وأما القرآن فلا يمكن ترجمته باللغات الأخرى، لأن ما فيه من الاستعارة، والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير لا تتسع له طبيعة اللغات الأخرى". قال الدكتور شكري الفيصل:"العالم بأسره شهد على ما تتميز به العربية من الحيوية والغنى والمرونة والقدرة على تقبل الجديد وتوليد اللفظ". أن اللغة العربية من الناحية التاريخية تقع ضمن المجموعة السامية، وهي أهم اللغات السامية، وقطب الرحى فيها". ومن المفيد بهذا الصدد أن نأخذ آراء بعض المفكرين والغويين الغربيين الذين لا يمتون إلى العروبة ولا الإسلام بصلة فمن ذلك ما قررته الأممالمتحدة من أن اللغة العربية من أهم اللغات الحية واعتمدتها إلى جانب اللغات الخمس المعترف بها دولياً. قال العالم اللغوي روفائيل بتي:"إنني أشهد من خبرتي الذاتية أنه ليس ثمة من بين اللغات التي أعرفها وهي تسع لغات لغة تكاد تقرب من العربية سواء في طاقتها البيانية، أو في قدرتها على أن تخترق مستويات الفهم والإدراك وأن تنفذ وبشكل مباشر إلى المشاعر والأحاسيس تاركة أعمق الأثر فيها ولا أجد لها مثلاً إلا الموسيقى". ونختم هذه الأقوال برأي أحد الأدباء الأرجنتينيين فيها بقوله:"إن اللغة العربية تختلف عن غيرها من اللغات بأن الحياة التي فيها حياة خلاقة، مبدعة ذات عبقرية خاصة، في الوقت الذي نجد فيه بقية اللغات مجرد أدوات للتعبير". ولعل من أهم الأسباب التي ارتقت بالعربية إلى هذا المستوى الرفيع وحفظ لها رونقها هو كتاب الله العزيز ثم اهتمام العرب بلغتهم وتطويرها عبر العصور المختلفة، خصوصاً في العصور الزاهرة التي صنفت فيها العلوم العربية وتم تدوين تراث العرب النثري والشعري فيها. ومن شواهد الاهتمام تلك ما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:"تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة وتعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت بعرفان نسبه". وفي مصنف ابن أبي شيبة [جزء 6 - صفحة 116] عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال:"تعلموا العربية كما تعلمون حفظ القرآن". ومن مظاهر ذلك أنهم كانوا يضربون أولادهم على اللحن كما كان يروى ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه. * ناقد أدبي ومعلم تربوي.