يشهد العالم تغيرات متسارعة على المستويات كافة قد تصل بالفرد العادي وفي أي بقعة من بقاع الارض الى درجة الاحباط. فالتغيرات تشمل كل مكان، وتسارعها لا يستثني أحد. وعلى رغم كل هذه القتامة التي تعيشها الشعوب وتعاملها مع مفردات حياتهااليومية، فإن قدرة القيادات السياسية على استيعاب هذه التغيرات والتعاطي معها بشكل ايجابي تخفف على الشعوب معاناتها ويعطيها نوعاً من الطمأنينة على المستقبل. في هذه المرحلة الزمنية مرحلة التغيرات السريعة وتداخل ما هو دولي وما هو اقليمي مع ما هو محلي، لا يمكن لأي دولة أن تتخذ مساراً معزولاً عن العالم حولها مهما حاولت ذلك. ومنذ نشأة الدولة الحديثة والعلاقات الدولية تأخذ مناحي مختلفة لكي تحافظ كل دولة على مصالحها، وتوفر لنفسها شروطاً أفضل للتعامل بقدر استطاعتها. ولا شك في ان تنوع العلاقات يعطي لأي دولة قدراً أكبر من المرونة في المحافظة على هذه المصالح وتفوق شروطها. نحن في المملكة كمواطنين ندرك دورنا الإقليمي ونعرف حجم بلادنا مقارنة بمحيطها العربي والإسلامي، ولكن من الغرابة بمكان أن تجد من هم خارج بلادنا قد يتوهمون أحياناً أنه يمكن لهم أن يخلقوا دوراً إقليمياً قد يفوق قدراتهم وإمكاناتهم، ليس لشيء موضوعي يمكن تلمسه، ولكن لأن الدبلوماسية السعودية انتهجت ولفترة طويلة مبدأ العمل بصمت، وقد يكون هذا مناسباً في الفترات التاريخية السابقة، إلا أن ما نشهده اليوم هو تغير واضح في أسلوب تعاطي الدبلوماسية السعودية مع أحداث المنطقة والعالم، فخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله شخَّص بدقة أوضاع المنطقة العربية، ووصفها بأنها على"فوهة بركان"يمكن أن ينفجر في أي لحظة. هذا الفهم العميق للوضع الإقليمي حتّم على الديبلوماسية السعودية أن تكون أكثر ظهوراً على الساحة الاقليمية، ما وضعها في موقع قيادة الوطن العربي. والأهم من كل هذا هو قبول الشعوب العربية لهذا الدور، بل ومطالبتها للقيادة السعودية بالتحرك للتدخل في كل بؤرة توتر يعيشها الوطن العربي، سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين أو العلاقات العربية - العربية أو العلاقات العربية - الإيرانية، فقبول الزعامة لا يختلف جوهرياً عن مفهوم الاحترام بالنسبة إلى الإنسان العادي، فالاحترام مسألة معقدة لا تستطيع أن تفرضها على أحد لأنه باستطاعتك أن تفرض الخوف ولكن الاحترام مسألة أخرى. الاحترام تنتزعه من الآخرين على مدى تاريخ طويل من السلوكيات التي يجب أن تشمل كل صفات النبل الإنسانية، التي لا يمكن حصرها بموقف يتيم أو موقف استعراضي في مناسبة معينة يمكن أن تزيف الحقيقة ولكن موقتاً فقط. الزعامة السياسية أيضاً لا يمكن فرضها بقوة، والإدارة الأميركية خير دليل على ذلك، فهي تملك من القوة ما يرعب العالم بأسره، ولكن من يحترم هذه القيادة؟ فحتى في الداخل الأميركي ومن الحزب الجمهوري نفسه نجد أن السياسيين الأميركان الذين يريدون التوجه للشعب الأميركي ينأون عن الارتباط بالإدارة الحالية وذلك بسبب حمقها وضيق افقها في التعامل مع القضايا الدولية، واعتقادها أن القوة وحدها قادرة على حل أي مشكلة في العالم ولكن ما نشهده في العراق وأفغانستان يسقط هذه النظرية. في اعتقادي أن من أهم العوامل التي أوصلت المملكة إلى هذه المكانة المميزة التي فرضت نفسها على الساحة الإقليمية شعوباً وساسة ومثقفين، الشفافية والنزاهة في التعامل مع الفرقاء، سواء أكانوا في لبنان أم فلسطين أم العراق، فقيادة المملكة تعلن على الملأ أنها تقف على مسافة واحدة من كل الأطراف، وهذا ما يعطيها صدقية في التعامل، فهي تريد أن تخرج الجميع من مآزقهم بعيداً عن مبدأ"الغلبة"الذي قد يخمد النار إلى حين، ولكنه لن يوجد الحلول الجذرية لها. ذلك على المستوى الإقليمي، اما على المستوى الدولي فنرى السياسة السعودية متجلية في انفتاحها على الصينوروسيا وهما العضوان الدائمان في مجلس الأمن، فتطور العلاقات السياسية والاقتصادية مع الصين وهي القوة القادمة للعالم والمنافس الوحيد المحتمل للولايات المتحدة، ينم عن بعد نظر في الاستراتيجية السعودية لضمان مصالحها المستقبلية، ويرى الكثيرون ان من اهم الخطوات لاستمرار علاقات سياسية واقتصادية متينة هي تخصيص عدد لا بأس به من البعثات التعليمية الى الصين، ففي هذه الحال يتاح لعدد كبير من شبابنا لاكتساب مهارات معرفية وتقنية من بيئة ثقافية مختلفة، وهذا بطبيعته يخلق نوعاً من الفهم لتلك المجتمعات وأساليب تفكيرها والطريقة الأفضل للتعامل معها على المستوى التجاري او الثقافي او الفهم السياسي، وهذا بحد ذاته استثمار في الإنسان وفي العلاقات السعودية - الصينية معاً على المدى الطويل، وتجربة الابتعاث للولايات المتحدة وأوروبا الغربية ماثلة أمامنا. وأنا أجزم بأن هناك الكثير من المثقفين السعوديين الذين تلقوا تعليمهم في الولاياتالمتحدة يفهمون السياسة الأميركية وطريقة صناعة القرار الأميركي بالقدر الذي يفهمه الأميركان أنفسهم، ولا أبالغ هنا عند الاستشهاد ببعض تحفظات واعتراضات عدد كبير من المثقفين السعوديين على مبدأ الغزو الأميركي للعراق، فها هو المفكر الأميركي من أصل ياباني"فوكوياما"صاحب نظرية"نهاية التاريخ"يتراجع عن مواقفه السابقة في دعمه للغزو الأميركي للعراق، بعد أربع سنوات من الفشل المتواصل والحماقات التي ارتكبتها السياسة الأميركية في العراق، فأيهم أكثر فهماً ووعياً للعلاقات الدولية المثقفون السعوديون الذين لا تتناقل آراؤهم وكالات الأنباء العالمية أم المفكرون الأميركان الذين تتلقف الوكالات نبأ تراجعهم وسوء فهمهم وتقديرهم؟ وفي السياق نفسه من عملية العلاقات السعودية الدولية المتوازنة، تأتي زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن للمملكة، وهو الذي أعلن قبل وصوله للرياض أنه سيبدأ جولته الشرق أوسطية من المملكة، نظراً إلى ما تشكله من ثقل سياسي واقتصادي، ملمحاً إلى أنه لا توجد حالياً أي خلافات أيديولوجية على عكس العقود الماضية. ومن يتابع العلاقات السعودية - الروسية يلاحظ أنها بدأت بالنمو في بداية التسعينات من القرن الماضي، ووصلت إلى ذروتها بزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله عندما كان ولياً للعهد في عام 2003، وفتحت تلك الزيارة آفاقاً جديدة من التعاون الاقتصادي، خصوصاً في مجالي النفط والغاز، إضافة إلى التعاون التجاري والثقافي. ولا شك في ان وجود اكثر من 20 مليون مسلم يعزز هذه العلاقات. كل هذا يتوافق مع رغبة روسيا في لعب دور أكبر في القضايا الدولية، ومحاولة الحد من الهيمنة الأميركية على العالم والتفرد بقرارات دولية، ما أوصل العلاقات الدولية الى حال أشبه ما تكون بالفوضى، إذ إن الإدارة الأميركية الحالية اعتمدت سياسة القوة او التلويح بها، وغطرسة القوة هذه جعلت الولاياتالمتحدة تضرب بالأعراف والقوانين الدولية عرض الحائط، لتبشر بأخلاقيات وتعاملات سياسية جديدة تفصِّلها على مقاس مصالحها ومصالح الدولة العبرية بغض النظر عن مصالح الدول الأخرى، بما في ذلك المجموعة الأوروبية. لا شك في أن الزعامة السعودية للوطن العربي لم تأت من فراغ أو من باب المصادفة التاريخية، ولكنها سلوكيات طويلة المدى اعتمدت على خطاب الوسطية في الداخل السعودي، وموقف النزاهة في التعاملات العربية، وموقف التوازن في علاقاتها الدولية. * أكاديمي سعودي