من الحقائق التي تفرض نفسها ولا تدع مجالاً للمزايدة عليها، هي أن الظواهر الخارجية لا يمكن أن تعكس مطلقاً حقيقة أن الرجل يمكن له أن يرتقي من دون المرأة، لأن الرجل لا يمكن أن يتحرر إلا بتحرر المرأة ذهنياً وفكرياً، لأنها هي التي تغرس فيه الأسس الصحيحة، من خلال تربية الطفل وإعداده للحياة عن طريق المعرفة العقلية والمنطقية. ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلا بتحرر أكثر فئاته غبناً، لأن الارتقاء الحضاري إما أن يكون جماعياً وعاماً، أو يبقى مجرد مظاهر وأوهام لمراحل تاريخية معينة، وعندما تطرح إشكالية خروج المرأة من الإطار الخاص بها"شؤون المنزل"لاحتلال موقعها المشروع في الإطار العام"المجتمع"، والذي كان ولا يزال أساسه مقصوراً على الرجال فقط، فهنا نتجه في البحث إلى إيضاح وتبيان الآليات الذهنية التي أسهمت في تكوين نظرة معينة عن المرأة، والارتقاء بها إلى مصاف"اللا مفكر"فيه في التراث العربي- الإسلامي، كما في تراث الحضارات القديمة كلها تقريباً. ولن نتجه إلى محاسبة أشخاص أو تيارات فكرية قديمة، لأن"مساءلة الموتى لا تنفع"، ولكن ما أود إيضاحه للقارئ الكريم في هذا المجال هو ضرورة عدم الاختباء وراء المنهج للتظاهر بالموضوعية، كما أن من الخطورة بمكان اللجوء إلى التفاسير والتحليلات الباردة من الداخل، والتي ترتبط بنظرية النسبية الثقافية المنتشرة في هذه الأيام والمنطلقة أساساً من المجالين الفكري والإداري، لهذا فإنني أتفق في الرأي مع ما ذهب إليه بعض من المفكرين في موضوع تصنيفهم"للفكرة"على أنها نوعان: فهناك الحالات التي يستبد الأشخاص من خلالها بواسطة أفكارهم التي تنطلق من إيمانهم ومعتقداتهم بمبادئ وأيديولوجيات معينة، يحاولون فرضها على الجميع، إلا أنها مهما استمرت فستنهار ولن يقدم الكفاح أي جدوى من أجل إثباتها لفترات طويلة عبر التاريخ. والنوع الآخر هو الفكرة التي تستبد في ذاتها بالأشخاص، لأنها تشكل وعيهم منذ البداية، وتبدو لهم قناعات راسخة وأوضاعاً طبيعية أو إلهية لا بديل عنها. وهنا لا تنفع إدانة الأشخاص أو المواقف بقدر ما يستوجب الأمر ضرورة تحليل الذهنية السائدة التي فرضت حدودها على الجميع، وهذا لا يتم بالتبرير للأمور عندما تحلل الذهنيات، وإنما تدفع إلى ضرورة التفكير فيها من الخارج، على اعتبار أن مجموعة من المستجدات الاجتماعية والثقافية أضحت تسمح بمثل هذا التفكير من الخارج، ليكون إقراراً ووضعاً معيناً قد مضى، وأن هناك أموراً جيدة تفرض نفسها. وعند هذه النقطة يكون الفارق كبيراُ وواضحاً بين معالجة قضية موقع المرأة في الفضاء الفكري الاجتماعي العام، ومعالجة الفكر الديني المعاصر للقضية ذاتها، والتي من المفترض أن يكون الكفاح معها ضرورياً وقد يطول بالنسبة لهذا النوع من الأفكار. لعب الإعلام العربي دوره في هذا الوقت بالنسبة لقضية حقوق المرأة ووضعها الاجتماعي، وفتح المجال واسعاً أمامها في محاولة لتحسين أوضاعها وإسماع صوتها وتقديم إنجازاتها للعالم، وقد كان لهذا الأمر مزاياه الحسنة، إلا أن بعض وسائل الإعلام يقدم عكس ما هو مطلوب منه في هذه القضية، وبطريقة غير مدروسة، الأمر الذي انعكس سلباً من خلال تشبث بعض الوسائل الإعلامية. ونحن في هذا العصر بماهية مفهوم"أن الذكر ليس كالأنثى"بالنسبة لأصل الطبيعة الإلهية والتفاوت الذي لا يمكن تبديله في الفروق الرئيسة الثلاثة وهي:"الفروق الفسيولوجية، والنفسية والدينية"، ويقوم مثل هذا الإعلام على رسم الثقافة النسائية، التي تُعد واحدة من الثقافات الفرعية في المجتمع في حدود الدور المتوقع منها، وهو دور على صعيد الحياة العامة من دون الدور الذي يضطلع به الرجل، على رغم التقدم الكبير الذي تحقق في هذا العصر في مجال مساواة المرأة مع الرجل سياسياً واقتصادياً. هذا بالإضافة إلى وجود وسائل إعلام أخرى، أعطت المساحة الكافية للمرأة لكي تقوم بدورها على تحريك قضية حقوقها من أجل إحداث تغيير جذري في وضعها ومكانتها الاجتماعية وعلى مستوى العالم، ومع ذلك لم تستطع المرأة - وبكل أسف ? أن تقدم أي انطباع أو مواقف ملموسة يمكن معها تحويلها إلى رمز يسهل الحفاظ على وجوده كشخص في تاريخنا المعاصر، وقد كانت النتائج عكسية تماماً عندما لعب الإعلام النسائي دوره في تسليط الضوء على تقديم المعلومة المتعلقة بعالم المرأة الخاص، أو تقديم المعلومات الترفيهية المتمثلة في أخبار نجوم السينما والفن على حساب إبراز الأدوار التي تقدمها مؤسسات المجتمع المدني النسائية في العالم العربي، والتي تهدف رسائلها الموجهة إلى رفع الغبن التاريخي اللاحق بالمرأة. وعلى رغم أن هذا الإعلام أصبح واسع الانتشار فإنني سأدعي عدم معرفة أسباب هذا الانتشار المخيف والمتزايد الذي يسيء إلى واقع المرأة المسلمة وقضية حقوقها التي تقرها العدالة الاجتماعية، وتفرض في جوهرها ضرورة المحافظة على المرأة وصوتها، خصوصاً ونحن نعيش في وسط التحديات والمخاطر التي تواجه عالمنا اليوم، وتلزمنا بعدم نحر إنسانية الإنسان بالقهر الذي ألقى به إلى الاضطرابات النفسية والاختزال الذي يُخضع كيان المرأة ويلحقه لخدمة النيات والرغبات، ويسجنه في صورة لا يسمح له بتعديها حتى يحال إلى أشكال عدة ومتنوعة تجعل من المرأة أسطورة، أو مجرد كائن خرافي! وفي تصوري أن كل هذا التركيز الإعلامي الموجه إلى فئة النساء لا يمكن أن يؤدي الغرض المطلوب منه إعلامياً عن طريق الفصل بين فئة النساء على أساس اعتبارها فئة مختلفة عن فئة الرجال، ولكن يكون أداء الدور الإعلامي السليم من خلال تسليط الضوء على إبراز النشاطات والفعاليات الاجتماعية التي يقدمها الرجال والنساء على حد سواء في إطار مدمج، والنظر إلى مكانة الرجل والمرأة اجتماعياً، ومحاولة تحسين أوضاعهما إعلامياً من خلال التركيز على تحقيق معنى المساواة بينهما عن طريق الملاءمة بين ما أقرته الشريعة الإسلامية وبين غنى الواقع وتعدديته. * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر.