يعلن نادي القصيم الأدبي، باختياره"جماليات القصيدة الحديثة في المملكة العربية السعودية"موضوعاً، في هذا العام، لملتقاه السنوي الذي يبدأ جلساته اليوم، الحفاوة بالشعر. ويدلل بتحديده للفترة الزمنية في الأعمال التي كتبت خلال العقود الثلاثة الماضية، على تكريس أبرز فترات الشعر السعودي وأكثرها حفولاً بالتجديد والمغايرة والتجاوز، وهي الفترة التي تتجاوب فيها الدوال على أهمية الفعل الشعري مع دوال النزوع به إلى الحداثة وانبعاثه بأشواق التغيير وحرية التعبير ووعود المستقبل، في المدى الزمني ذاته الذي كان -مثلاً- كتاب أحمد فرح عقيلان رحمه الله"جناية الشعر الحر"1983م محاكمة للشعر، على مجرد الخروج على الأوزان التقليدية، بكل جرائر الخيانة والمروق والتآمر والإفساد. إن الشعر قيمة إنسانية، ونحن اليوم بأمس الحاجة إليه، لأننا بأمس الحاجة إلى الحلم والجمال والحرية، وبأمس الحاجة إلى اللغة الخلاقة التي تعيد فينا الإرادة، والوعي بأنفسنا وبالعالم، والقدرة على الفعل و"إيقاع التكوين الآتي"بحسب عبد الله الزيد. فالشعر -دوماً- ضحية الحياة المتكلسة والجامدة، وضحية النمطية وقيود الاتباع والتقليد، بقدر ما هو -في هذا العصر خاصة- ضحية التعصب والطغيان، وتوحش رأس المال، وتغول الآلة، وبيع الجسد!. وحين يكون الشعر ضحية فإن الإنسان الذي يصنع الشعر ويستهلكه مهدد في صلب المعنى الإنساني لكينونته. لقد كانت الحفاوة بالشعر لدى الأمة العربية منذ القديم حفاوة بقدرته على إبداع المعنى وتجديد الحياة وصياغة المعاني الإنسانية"فهو معرفة، ولهذا كان"حكمة"في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان"ديوان العرب"فيما أثر عن عبد الله بن عباس، وهو -كما قرر عمر بن الخطاب-"علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه". وهي المعاني نفسها التي كانت تخالج حس الجماعة العربية سواء وهي تحتفل بميلاد الشاعر، أم تشير إليه بهذا الاسم المشتق من الشعور الذي هو دال المعرفة مثلما هو دال الحياة، والشاعر إنما سمي شاعراً -فيما يروي ابن وهب وابن رشيق وغيرهما- لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره. وامتد ذلك إلى وعي الشعراء بصنعتهم الشعرية، فهي إبداع معان عليا بقدر ما هي إبداع لغة، ومن ثم لم يكن المجْد، دون الشعر -عند ابن الرومي- إلا معاهد، ولم يكن الناس إلا أعظم نخرات، ولولاه -كما تحدث أبو تمام- ما عرف بناة العلا أو بغاة الندى من أين تؤتى المكارم. ولم يكن من الغريب أن يكون سؤال الشعر هو سؤال الزمن"لأنه سؤال تجدُّد الوعي بتجدُّد اللغة، والتجدُّد دلالة على السيرورة في الزمن، لهذا كان الشعراء المحدثون -كما وصفهم النقاد القدامى-"أشكل بالدهر"و"أشبه بالزمان"، كما كانت تهمة السرق مفزعة للشعراء بقدر ما يفزعهم انتفاء الأصالة عنهم"لأن ذلك ينفي تجدُّدهم ويلحقهم بزمن غيرهم. وهكذا يحمل التجديد الشعري والأدبي -بالضرورة- الدلالة الزمنية ليشير بشكل مزدوج إلى الماضي والمستقبل"الماضي من حيث هو مجال التجديد ومادته من جهة، ومقياسه من جهة أخرى، والمستقبل الذي يعني دلالة التغير والمجاوزة بوصفها تطلع إلى الغد، وبحث عن الممكن، وانعتاق من الضرورة. والعمل الفني بحق -كما يقول إليوت- ينتمي إلى تراث الأمة الأدبي من ناحية، ولا ينتمي إليه من حيث هو عمل جديد يضيف على هذا التراث، ويعدل فيه، ويجدد نظرتنا إليه. وبالطبع فلم يكن للواقع الثقافي السعودي بما توافر له من عوامل التقدم في التعليم والعلاقة بالكتاب والصلة بالثقافات العربية والأجنبية، بالإضافة إلى التحولات الاجتماعية المتسارعة، أن يتوقف إبداعه الشعري عن النمو والتغير، وبخاصة وأنه من أكثر بلدان العالم فتوة وشباباً. ولهذا كانت فتنة الجديد الشعري والأدبي الهمّ الأساس الذي تتوارثه الأجيال مثلما تلده المراحل المتوالية، وكان هم الجديد الشعري والأدبي مقترناً -دوماً- بهموم البحث عن واقع أفضل في معانيه وشروطه الإنسانية، وفي علاقته بالمعرفة والعصر. وأعلام الجديد الأدبي والمعرفي في المملكة هم أعلام إصلاح اجتماعي في الوقت نفسه، من محمد حسن عواد إلى سعد البواردي، ومن حمزة شحاتة والفيلالي إلى غازي القصيبي ومحمد العلي وعلي الدميني. وأعتقد أننا حين نخص فترة الثلاثين عاماً الأخيرة في عمر القصيدة السعودية بالنظر، فإننا نخص الفترة التي اكتسب فيها الجديد الشعري معاني حديثة تصله بغيره من الصيغ والأنواع الأدبية والفنية التي اكتسبت هي الأخرى صفتها الحديثة في تلك الفترة مثل القصة القصيرة والفن التشكيلي والمقالة وتالياً الرواية، بالمجاوزة للذاتية في الوجهة الرومانسية والخطابية والغرضية لدى التيار التقليدي، والهروب من العاطفية والتقرير إلى الموضوعية والدرامية، ومن الصوت الواحد إلى الأصوات المتعددة، ومن السطحية والضيق إلى العمق والسعة، وصولاً إلى تلك الدرجة القصية من انعتاق القصيدة من كل هاجس أو دلالة سوى وجودها الذاتي المستقل عن الدلالة على شيء خارجها. هذا التحديث ابتدأ في تأسيس حساسيته الفنية الجديدة لغة ودلالة، مع علي الدميني وسعد الحميدين وأحمد الصالح الذين رفدوا تجربة القصيبي ومحمد العلي، وتواصلوا مع العواد والمنصور والبواردي والعيسى والرميح... إلخ صلة الإضافة لا صلة التكرار، وهي الصلة التي أخذت بذورها تزدهر في نهاية السبعينات وتصل أوجها في الثمانينات وما تلاها، وذلك بالاقتران مع توهجٍ لقصيدة النثر كانت فوزية أبو خالد رائدته منذ منتصف السبعينات، وسيلٍ ما يزال دافقاً بالقصيدة الرومانسية والعمودية ومنظومات الوعظ والمناسبات. وأعتقد أن هذه اللوحة المتعددة للتكوين الشعري في الثقافة السعودية المعاصرة قد تجاوزت -الآن- بمكوناتها، الصراع حول الوجود إلى صراع التجاور والتحاور والتداخل، بعد أن نجحت الحداثة في إنزال الشاعر من عليائه الخرافية واتجهت مع الرواية وصيغ أخرى عديدة إلى القاع الاجتماعي وهوامشه ونثريات الحياة.