يمتلك جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية رصيدين من التأييد الحكومي والجماهيري، لا ينافسه أكثر الأجهزة الشعبية والرسمية فيها، على رغم أن الأجهزة كافة مسخرة لخدمة البلاد ومواطنيها، وإن بصور متفاوتة. ومع أن نشاط الهيئة حوصر بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر بانتقادات محلية واسعة، تؤازرها أخرى أجنبية، إلا أن التأييد الرسمي والشعبي للهيئة ما زاد إلا صراحة وتوكيداً في مناسبات شتى، كان آخرها ملتقى"خير أمة"، الذي نظمه الجهاز أخيراً، ربما لحشد ذلك التأييد الذي وجدته، مع أنه غُلف أحياناً برذاذ من النقد الذاتي. لكن الجهاز، الذي يفاخر باستمرار بأن قيامه منصوص عليه صراحة في"نظام الحكم السعودي"، تمكّن بأسلوب عصري من توضيح رسالته للمجتمع عبر التركيز على إبراز جهوده في الأمر بالمعروف قبل النهي عن المنكر، وفي الستر قبل التشهير، والرحمة قبل العقاب. وقال رئيسه الشيخ إبراهيم الغيث:"وجود هذا الجهاز... الرئاسة العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه المملكة، هو صمام أمان لهذه البلاد - حفظها الله وأدام أمنها واستقرارها - حيث تقوم الرئاسة العامة بحمد الله وفق هدي كتاب الله وسنة ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم الأنظمة والتعليمات، وينتشر بفضل الله في مدن ومحافظات وقرى المملكة أكثر من 500 مركز، تؤدي رسالتها لأبناء هذا المجتمع بالنصح والتوجيه والإصلاح ومكافحة الجريمة قبل وقوعها، مستخدمين في ذلك أفضل الوسائل وأنجحها، مع إدخال التقنية الحديثة المتطورة المعينة بعد توفيق الله على أداء رسالة الهيئة التوجيهية والإصلاحية. وتسعى الرئاسة عبر مراكزها إلى الستر على المخالفين ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، يدل على ذلك ما تضمنه التقرير الإحصائي للرئاسة لعام 1426 - 1427ه، إذ بلغ عدد المخالفات التي تم إنهاؤها وسترها داخل المراكز أكثر من تسعين في المئة". ومن دون أن تسمي الهيئة أشخاصاً أو جهات بأعيانها، ردت على كل منتقديها، على طريقة المثل الشهير"إياك أعني واسمعي يا جارة"، ففي معظم المواد والتصريحات التي نشرها الجهاز في المناسبة، كان المنتقدون للحسبة فيها ضميراً مستتراً. فالذين يعتبرون إجراءات الهيئة صارمة في نواحي العلاقة بين الرجل والمرأة، رد الجهاز عليهم بأنه اكتفى بالمناصحة، وأخذ التعهد على 92 في المئة من المخالفين"رغبة في استصلاحهم وإعطائهم فرصة للعودة إلى الجادة"، وحتى النسبة التي أحالتها إلى الجهات المختصة، وهي 8 في المئة فقط، أنهت إجراءاتها عبر"معاملات إدارية سرية"، في تعقيب آخر على المحامين الذين يشككون في سلامة إجراء الهيئة قانونياً. أرقام في مواجهة الخصوم وفي المحور ذاته، ألمح الجهاز في نشراته إلى أولئك الذين يحتجون على إبلاغ أولياء أمور الفتيات بسلوكهن، والذين يعتبرون ذلك فضحاً، وقالت:"حرصت الهيئة على الستر بمفهومه الشرعي والنظامي، واعتنت بتطبيقه، ومراعاة خصوصيات الأشخاص المقبوض عليهم وفق الضوابط الشرعية والنظامية، ولم يحدث أن قامت الهيئة بالتشهير باسم شخص لمخالفة ما، أو فضحه في الأوساط العامة". وفي جانب كفاءة منسوبي الرئاسة، أكدت أن أرقام إحصاءاتها تحدثت عن تدريب أكثر من 300 موظف عبر برامج معهد الإدارة العامة، ما يبرهن على أن الجهاز يأخذ بالوسائل العصرية في"تأهيل منسوبيه كافة، بغية رفع مستوى أدائهم وتنمية مهاراتهم وقدراتهم"، وهو ما يطالبهم النقاد به كثيراً.أما توطيد الحسبة علاقاتها مع الجمهور بوسائل أوسع من النهي عن المنكر، كما تُتهم، فأوضحت أن إحصاءات المراكز والفروع سجلت أكثر من 56 ألف زيارة رسمية، متبادلة بين الهيئة ومسؤولي الجهات الحكومية والمؤسسات التعليمية وبعض الأعيان، كما أن توزيعها نحو 8 ملايين مادة دعوية موجهة لأفراد المجتمع يكشف عدم إغفال فروع الجهاز ومراكزه الأمر بالمعروف، الذي تُتهم بتغليب النهي عن المنكر عليه. لكن اللافت أن الهيئة على رغم ملاحظتها أن علاقاتها مع وسائل الإعلام وبعض الجماهير متوترة، إلا أن خطاب الملتقى ظل مقتصراً على المحسوبين على الرئاسة من العلماء والدعاة، ورجال الأعمال. أما الأصوات التي اشتهرت بنقد الهيئة في بعض أدائها، فإن الهيئة لم تشأ في ما يبدو أن تتحاور معها في الملتقى، واكتفت بالرد عليها بصيغة"الغائب". وهذا ما اعتبره الدكتور مساعد المحيا، في تصريح إلى مجلة الملتقي نفسه، أحد العوامل التي أدت إلى غياب المعالجات الإعلامية الجادة التي تناقش عمل الهيئة. وأضاف:"من أبرز ما يجعلنا نفتقد ما نتطلع إليه في تعامل الإعلام مع الهيئة عدم الايجابية من الهيئة نفسها، بوصفها المعنية بذلك، وهي من ينبغي أن يدفع ويدعم معالجات جادة ومهنية خاصة، لكن ذلك يتطلب جوانب من أبرزها الاستعداد لمجموعة من الأطروحات النقدية الناتجة من منهج علمي متوازن، كما أن ما يجعلنا نفتقد ذلك غياب الروح المنصفة والعادلة في الحكم على بعض ممارسات وأعمال رجال من الهيئة، وتعميمها على الجهاز والعاملين فيه". رذاذ من النقد الملتقى الذي نظمه فرع الرئاسة في الرياض، بقيادة رجليه المتسامحين الشيخ عبد الله الشثري والشيخ صلاح السعيد، وإن غابت عنه أطراف عُرفت بآراء مناهضة لأداء الهيئة، إلا أنه لم يخل من رذاذ نقدي أو نصيحة محب. وأهم ما في ذلك النقد أنه جاء من أكثر الداعمين للهيئة، وهما أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز، والمفتي العام للمملكة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، فأمير الرياض لم يمنعه التوكيد على دعم الدولة لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووقوفه شخصياً إلى جانبهم، من التلميح إلى أهمية مراعاة النصيحة بلطف بأسلوب غير جاف، بل"انصح وناصح تكلم ولا تغلظ، رغب الإنسان ولا ترهبه، رغبه في الخير، أرشده، وإن شط كن معه حتى تدله إلى الخير". ودعا الهيئة إلى استثمار وسائل التقنية المعاصرة،"فالعصر الحاضر فيه وسائل اطلاع الكترونية وتقنية تجعل الإنسان يفقه أشياء كثيرة، وكما تستخدم تلك الوسائل في الشر، يمكن استعمالها في الخير كذلك، المهم أن نتعامل مع العصر بوسائله، وما من شك أن جمع هذه الليلة من أهدافه العمل بتلك الوسائل كما شاهدنا في المعرض المصاحب". وتضمنت كلمة مفتي عام المملكة الروح نفسها، إذ نبه رجال الهيئة إلى ضرورة الرفق بالناس والعطف على الواقعين في المعصية، في وقت تكالبت فيه الفتن على الناس،"ولا بد من احتواء الشباب بحلم ولين وإقناعهم بسلوك الطريق القويم، لإنقاذ أعراضهم ودينهم، والآمر لا يستطيع تغيير كل شيء فلا بد من صبر". وخلاصة القول أن ملتقى"خير أمة"، الذي أبرز جهود الهيئة في تحجيم ظواهر الانحرافات السلوكية والاجتماعية العامة، إن لم يأت بجديد، حسبه أن جدد مناصرة الدولة والمجتمع لجهاز يرون فيه شعيرة إسلامية، وأمناً أخلاقياً وسلوكياً فريداً.