الأخلاق بذاتها لا تتضاد مع الحرية، ولا تقابلها ليكون وجود الأولى نفياً للثانية، العبودية هي ما يقابل الحرية، والأخلاق التزام يرتبط بالدين والقيم والأعراف الاجتماعية، التزام مشغول بالانتقال من الضرورة إلى الكمال. الفنون تقوم بالدور ذاته، ومن هنا يتقاطع الفن والأخلاق معاً ضمن إطار يكون الإنسان محوره الأساسي. تنشغل الأخلاق بالجميل في سلوك إنسان يسعى للوصول إلى كماله، وينشغل الفن بتعبير الإنسان عن واقعه وآماله وآلامه وتطلعاته بصورة جميلة باتجاه الأفكار والأشخاص والأشياء وفي إطار من زمان ومكان. لا توجد حرية مطلقة، الحرية المطلقة عدم، وحتى عند الإباحيين تتحول الحرية إلى قيد يصرون على الالتصاق به بمسوغ أو من دونه، وهذا ما يجعل كثيراً من المبدعين لا يفرقون بين الحرية والفوضى، إما جهلاً أو تغافلاً لأنهم لا يحبون أن يلتزموا بالتبعات، ولا يرغبون في تحمل المسؤوليات، بعض النقاد يفعلون ذلك أيضاً. الحرية تجعل الفن أكثر جمالاً، والفوضى تشوه الفنون حين تحول الأخطاء الفنية إلى مبررات تحت دعاوى الحرية. والجمال والفوضى كلاهما حرية، وما يفرق بينهما هو المسؤولية في مقدارها ومدى تحملها، وتقبّل التبعة، فحيثُ الجمال فثمّ التزام وتناسق وتبعات ومعرفة، وبالتالي حرية مسؤولة، ومن ثَمّ انطلاق، وحيثُ الفوضى فثمّ تخبط وجهل، ومن ثَمّ انتكاس. وفي نقدنا للفنون علينا أن نفرق بين الأخلاق والأعراف، وأن نعي أن العرف الأدبي قد يتفق مع غيره من الأعراف وقد يختلف. ومتى ما آمن الفنان المبدع بالقاعدة يضعف الإبداع، وقد يموت، إيمان الفنان بالقاعدة نقص في الحرية المتاحة له، والحرية فن. كما أن الناقد إذا لم يؤمن بالقاعدة فقد يموت الفن، لأن الفن نظام. لنؤمن بالفن للفن حين يعني ذلك جمال النص في شكله، وأيضاً في مضمونه، إذ لا يوجد نص لا يعني شيئاً على الإطلاق، وإن وجد فهو مجرد عدم لا نقرأه ولا نسمعه ولا نحسه ولا نراه، ولا قيمة لعدم. الفن الجميل مهارة، ولا مجال للحديث عن مهارة من دون قاعدة، لكن ما شأن الإبداع الجميل في انطلاقته الأولى بلا مقياس؟ أليس هو القاعدة الجديدة لإبداعات قادمة؟ والناقدُ مشغول بالجمال لا القبح، لكنه يتأمل القبيح ويتساءل: لم هو قبيح أولاً؟ وكيف يتحول إلى جميل ثانياً؟ والسؤال الأصعب: هل ذلك ممكن وكيف؟ والفن عموماً عمل تهييجي يسعى لدفع الناس باتجاه ما يرى أنه الأفضل والأكمل وتلك بعض مهام الفنان العظيم، ومنها أن يخلق مسؤوليات جديدة من شأنها أن تختلف مع الواقع أكثر مما تتفق معه. ليكتب المبدع بحرية مسؤولة، ولينظر الناقد في نتاجهِ وفق مقاييس الفن وأدواته، ووفق موهبته وقدراته كناقد في حضرة إبداع. على المبدع تقع مسؤولية ما أبدعه. ثم يأتي دور الناقد الذي يدل القارئ على مواطن الجمال ويدعو المجتمع إليها، وعلى المجتمع أن يعي ويفهم ويتفهم. من مهام الفنان الرقي بالذوق العام، ومن شأن ذلك أن يرتقي بالأخلاق وبذا يكون ضميره ووعيه حرية لا قيداً. تقديس الرذيلة خطأ، وتقديم التبريرات للسيئات والتجاوزات الإنسانية خطأ، وتحويل لحظات الضعف الإنساني إلى لحظات كمال خطأ، والمبالغة في وصف الغرائز الإنسانية وتجسيدها خطأ، ومنح أوسمة البطولة للمجرمين خطأ. هي أخطاء في واقع الحياة كما هي أخطاء في قلب العمل الفني المبدع، وهي أخطاء قد تدل على خلل في ذوق الفنان وفهمه، قبل أن تدل على خلل في معاييره الأخلاقية، لأن الفنان داعية جمال وليس رسول قبح. على الناقد أن يلتفت للفن وحده، وعلى الواعظ أن يبالي بمؤثرات الفن على الأخلاق. النشر ليس قضية الناقد أو المبدع وحدهما، بل هو قضية المجتمع وثقافته وأفكاره. هي قضية بين الكاتب حين يقرر النشر، وقضية المجتمع أخلاقياً كان أو غير أخلاقي حين يقبل المنشور أو يرفضه. والدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة ناقد الفن الأساسية حين ينتقد النصوص أو يناقش الإبداع. للكاتب أن ينشر ما يشاء، ووفق ما يرى من منظور الفن أو الأخلاق أو هما معاً، وللقارئ أيضاً أن يقرأ ما يشاء، لكن وفق مقاييسه هو كقارئ لا مقاييس الكاتب اعتباراً لجودة العمل الفني أو أخلاقياته. ليكتب الكاتب عما ومن شاء وبالطريقة التي يشاء، تلك حرية. لكن ليس من حقه أن يمارس الإقصاء مع القارئ حين يختلف معه هذا القارئ. وقد يوجد القالب الفكري الذي يلائمها معاً، وقد لا يوجد، حين يوجد فلا بأس باتفاق، وحين لا يوجد فلا حرج في خلاف. وليقل الكاتب رأيه، ثم ليقل القارئ رأيه، ثم ليصطرعا بالفكر وحده، ولتكن الغلبة للجمال وللفكر وللإنسان. بأيهما تكون خسارتنا أكبر؟ بفنان حر يُنجز إبداعاً عظيماً، أو بأخلاق وديعة تبث السكون في المجتمع؟ أليس من الأفضل أن يكون لنا فنان مشاغب على ألا يكون لدينا مشاغب على الإطلاق؟ لنلذ بصراع الأفكار، ولنأمل الخير باختلافها وتلاقحها. من الفنان بحسب موهبته وقدرته، ومن الناقد بحسب ثقافته وعلمه بالمقاييس الفنية، ومن رجل الأخلاق قدرته على تمييز النافع والضار بالفرد والمجتمع. وللقارئ ذوقه واختياره. وللجميع حريتهم في التفكير والتعبير. الحديث عن الغرائز حق مشروع للفنان المبدع، لكن ما الغاية من هذا الحديث: هل هو لتوضيح مسلك إنساني، أو تفسير لحالة ضعف بشري، أو لبيان دور الغرائز في مسيرة حياة؟! أو هو لاستثارة هذه الغرائز بين كاتب وقارئ مشغولين بالغريزة على حساب العقل والوجدان؟! في القرآن الكريم حديث عن التي قالت هيت لك، وتلك التي أحصنت فرجها، وذاك الذي قضى منها وطراً، وتلك التي خانت زوجها، لكن جاء ذلك كله في سياق يخاطب عقل الإنسان بأشرف الألفاظ المتداولة زمن النزول، وجاء لتوضيح فكرة لا يمكن الوصول إليها بغير الإشارة العارضة لشيء أو شخص ولبيان غاية تتجاوز الأشياء والأشخاص إلى الأفكار. وفي الأدب الحديث كلام كثير عن الجنس: بين ديستوفسكي، وهاردي، ومحفوظ وغيرهم، لكنه الكلام الذي يغوص في النفس الإنسانية سابراً ومحللاً ودارساً، الكلام الذي بحذفه من النص يختل النص كله، وليس الكلام الزائد الذي يكتبه الكاتب حين يسوق نفسه بإبراز العورات بلا مبرر من فن، أو داع من فلسفة وعقل. متى نصل إلى مجتمع لا نحتاج فيه إلى الرقيب ثقة بأنه لا حاجة لوصاية إنسان على إنسان؟! لنقول حينها لصديقنا الفنان: أبدع ما يوحيه لك فنك، وما تلهمه إياك عبقريتك، ولنراجع ولنستمتع ولنتأمل ولنفكر وفق ما تمليه علينا رؤيتنا الفنية، وتجربتنا الحية، وما نؤمن به من أخلاق وقيم، وقد نختلف معك وقد نتفق، لا بأس، الاتفاق والاختلاف من سمات الحياة، ولنتحمل جميعاً الحرية كما هي بمسؤولياتها وتبعاتها، وليكن في ذلك تجديد دائم في ذوق القارئ، وفي إبداع الفنان، وفي وعي المصلح. وعسى أن نستفيد من هذا الصراع جمالاً ومتعة وذوقاً وأخلاقاً.