ليس التاريخ مليئاً بالأساطير، كما تقول الكتابات التقليدية في حقل التاريخ العربي القديم، بل إن الأساطير مليئة بالتاريخ. بهذه التيمة المتكررة، أراد الباحث فاضل الربيعي الدخول لنقد مصادر روايات الطبري وابن هشام والمسعودي عن الشخصيات التاريخية العربية، من خلال كتابه أبطال بلا تاريخ دار الفرقد - دمشق حيث يرى أن هذه الكتب وسواها من مرويات الإخباريين العرب والمسلمين تأتي بوصفها مواد نموذجية للدمج بين عنصرين هما: الخبر التاريخي والأسطورة . وفكرة الكتاب تقوم على فكرة: إذا كانت الانثروبولوجيا بحسب كلود ليفي شتراوس اهتمت بدرس المجتمعات التي تمتلك تاريخاً، ولكنها في المقابل تمتلك سجلات أسطورية ثمينة، فإن على علمي الأساطير والخرافات الميثولوجيا أن يهتما ويدرسا بعمق كل ما يتصل بالأبطال غير التاريخيين. وفي هذه النقطة المتأرجحة تماماً يمكن وضع سؤال ملح: من الذي يمتلك حقيقة عدم صحة سيرة شخصية تاريخية، وفي المقابل من يمتلك إثبات وجودها خصوصاً إذ كانت موغلة في القدم؟ ويمكن لأي شخص الإجابة بأن هذا الحق مكفول لمن يستطيع التنقيب أو متابعة طريقة الحفريات في الإثبات والنفي، إلا أن هذه الإجابة لا يمكن أن تكون بهذا اليسر حين تكون المسألة متعلقة بالمرويات والتاريخ، خصوصاً وان فترات التدوين هي فترات ملتبسة في الأساس ويأتي التباسها من خلال تتابع الدول، ومع تتابع الدول وتساقطها تتراكم الأنقاض ومن هذه الأنقاض تتم إعادة تدوير التاريخ، حتى إذ جاء المتأخرون كان هذا التاريخ تغلغل في الوجدان الجمعي، ما يجعل المكتوب وان كان غير حقيقي يغدو حقيقياً. لتغدو مهمة النافي لهذا التزوير التاريخي مهمة في غاية الصعوبة، مهما تسلح هذا الباحث من معطيات عقلية وتاريخية. ولهذا يتنقل الربيعي بين المرويات العربية للوصول إلى مبتغاه في نفي وجود شخصيات تاريخية عربية، ليؤكد عدم وجودها محاولاً تنقية التاريخ العربي الذي يعج بمثل هذه الشخصيات التي لا تاريخ لها كما يؤكد، وإنما تسللت إلينا من خلال الأسطورة وهو في هذه المحاولة ينتقد رؤية المعاصرين من الكتاب العرب وهم يعيدون إنتاج الصور غير التاريخية لهذه الشخصيات وتقديمها للجمهور، كما لو أنها فعلا هي الجزء البطولي من التاريخ المتحقق. وهو يدعو إلى التمييز بين التاريخي والأسطوري في كون الأسطورة تنشئ للبطل تاريخاً خاصاً به وحده، ويكاد لا يمكن إشراك المجتمع فيه ولكنها تقوم على غير توقع منا بربط التاريخ الشخصي والخاص بواحد أعم، للمجتمع الافتراضي الذي تخيل سارد النص أنه هو المجتمع الذي دارت فيه الأحداث البطولية، إذ صنع، هناك البطل من لهيبها ومن ألم وصرخات ضحاياها. والمؤلف يدعو إلى نزع القشرة الصلبة عن سطح الأسطورة وعبر معالجة حذرة ومحترسة، وأنه بهذا الفعل يقدم أدوات لا حدود لها للنفاذ بعمق إلى القاع المجهول، حيث تقبع الملفات الضائعة للتاريخ العربي ولذا يتعين علينا - كما يقول المؤلف - أن ننقاد لرؤية أريك فروم في تعلم أبجدية الأسطورة، لكي يتسنى لنا فهم مضمون الرسالة، وهذا يتطلب نزع القشرة السميكة نزعاً رقيقاً وسلساً ثم فض مغلف الرسالة وتفكيك رموزها السرية. ويشبه الربيعي الرسالة التي علينا فض مغاليقها بتلك الرسالتين اللتين بثهما سيدنا إبراهيم إليه السلام لابنه إسماعيل - الذي لم يره - بتغيير وتثبيت عتبة الدار. فأسلافنا وأجدادنا بثوا لنا رسائل يمكن الوصول إليها عبر الأساطير، إلا أن تنقية الرسالة من التراكمات المهولة للمرويات، بحاجة إلى ترميم التاريخ وتنقيته من الأسطورة التي أدخلت ما هو غير تاريخي في ما هو تاريخي. وبهذا المعنى فإن الأساطير تتضمن سلسلة من الرسائل الملغزة المرسلة من الأسلاف، التي يجب تفكيكها وقراءتها للتمييز بدقة لمعرفة الأبطال المختلقين من الأبطال التاريخيين الحقيقيين. بمعنى أن التزاوج بين الأسطوري والتاريخي عمل على انتقال الأبطال، الذين هم بلا تاريخ من الطبيعة إلى الثقافة، ومن الطور ما قبل البشري إلى الطور البشري، قبل أن يصبح بوسعنا رؤيتهم في طورهم ما فوق البشري. ويرى الربيعي على طريقة هيردوت أن الأصل البعيد لأساطير اليونان كان فينيقياً، أي انها أساطير عربية قدمت عبر البحر وهذا يعني أن الأساطير هاجرت وتغربت طويلاً قبل أن تعود إلى مواطنها التاريخية لتروى كأساطير أجنبية مثيرة وساحرة. ويؤكد المؤلف انه لا توجد معلومة على وجه الدقة تفسر كيف دخلت أساطير طروادة اليونانية في المرويات التاريخية العربية. وفي سبيل الوصول إلى ذلك، سلك المؤلف تفكيك البنى السردية التقليدية لهذه الأخبار، وأولى الوقفات لهذا التفكيك يوقفنا على مروية إناخة ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة مهاجراً، مشيراً إلى أن مسألة توقفها هي اصل ثقافي يتصل اتصالاً وثيقاً بأسطورة يونانية قديمة من أساطير حروب طروادة، التي هي بدورها ذات جذور فينيقية أي ذات جذور عربية بدائية ضاربة في القدم. وان هذه الأسطورة تسللت إلى المرويات العربية كنوع من الاسترجاع للأسطورة الأولى الفنيقية وهكذا عمدت الثقافة إلى استرجاع عناصرها الحكائية.