خرج مئات الأطفال مساء أول من أمس، إلى شوارع محافظة الأحساء، لوداع شهر رمضان المبارك. وانتظم الأطفال في مسيرات طويلة، مرددين أهازيج شعبية، على وقع قرع الطبول. واستعاد الأطفال طقوساً درج سكان محافظة الأحساء على إقامتها في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، استعداداً لتوديع هذا الشهر واستقبال عيد الفطر. وكانت طقوس توديع شهر رمضان محركاً خصباً لعقول الأطفال بتواتر الأجيال التي تعايشت مع هذا الحدث، فطقوس توديع الشهر لم تتغير بتغير الزمان والإنسان، بل ما زالت بسيطة غير متكلفة، خصوصاً في القرى التي لا تشهد صخباً يضيق عليها تواتر العادات والتقاليد الشعبية. فالطفل حسن علي الدليم، الذي لم يتجاوز عامه السابع، كان يظن أن من خرج هو وأطفال بلدته لتوديعه، كان"رجلاً اسمه رمضان، يرتدي مشلحاً أسود، وله لحية بيضاء كثيفة، ويمسك بعصاة طويلة، ويعتزم السفر لذا يجب توديعه". وتبقى هذه القصة في عقلية الأطفال ذاتها لا تتغير، فوالد الطفل كان يرسم في ذاكرته، عندما كان طفلاً، صورة رمضان الذي يحتفل الناس بتوديعه بالدموع والحسرة والفرح، ويقول:"لم استغرب حين سألني ابني من هو رمضان الذي سنودعه؟، على رغم ضحكي، لأنني تخيلت طفولتي، فأنا أعلم بما يفكر فيه ابني، لأنه لم ير رمضان الذي سنودعه"، مضيفاً"بدأت أشرح له أن من كان في مسيرة وداعه هو شهر رمضان، لأنه أفضل الشهور، وأعلاها عند الله، لكنه طرح تساؤلات لم أكن أقدر على طرحها عندما كنت في عمره، ومنها: أين سيذهب؟ هل لبلد آخر؟ كيف سيذهب؟ هل سيرحل على حصان كبير أم في سيارة؟ وهل يشاهدنا ونحن نودعه ويفرح بذلك؟ وأجبت على كل هذه التساؤلات بعقلية الطفل وحكمة الكبير، فكانت سعادته كبيرة بتلك الإجابات، بخلافي أنا في طفولتي، إذ لم أجد من يجيبني عنها". وتبدأ مسيرة التوديع منذ العاشرة ليلاً، إذ يجتمع الأطفال في لهفة في ساحة القرية الكبيرة، منتظرين"المسحراتي"أو"أبو طبيلة"، أو ما يُطلق عليه محلياً"المسحر"، ومع أول صوت يخرج من طبلته، يبدأ الأطفال بالتصفيق وترديد الأغاني والأهازيج الشعبية، في مسيرة طويلة يجوبون بها شوارع وسكك وحارات البلدة في فرح لا وصف له. ويبدأ المسحراتي بقرع الطبلة مردداً"لا إله إلا الله يا حي يا معبود"، والأطفال من خلفه يرددون"يا الوداع يا الوداع ودعتك الله يا رمضان". ويقول المسحراتي خليفة محمد:"اختلفت أجزاء من طقوس هذه المسيرة الاحتفالية مع مرور الزمن، ففي السابق كان كبار القرية يتقدمون الأطفال، وكانت هناك مجموعة تقف في صف واحد بمحاذاة المسحراتي، يعزفون على الدفوف في صورة احتفالية جميلة"، مضيفاً"أما الآن، فالأمر اختلف، وأصبح التوديع مقتصراً على الأطفال في القرى فقط، وكان الناس في السابق تخرج الأطعمة والمال للمسحراتي الذي يعود إلى منزله، وهو محملاً بكيس كبير له ولأطفاله، مكافأة لعمله طوال هذا الشهر الكريم، أما الآن فلا، ولا أدري لماذا تغيرت هذه العادات؟، على رغم بقاء هذه العادة وداع رمضان التي نتمنى أن تبقى مع الزمن". واجتذبت هذه المسيرة كثيرين من مستقلي الشارع العام المحاذي للبلدة، الذين نادراً ما يرون مثل هذه الطقوس الشعبية في صورتها الحقيقية. ويقول فيصل الوحيمد:"في البداية تعجبت من هذه المسيرة الطفولية، ولو لم أر المسحراتي في البداية، لظننت أنهم يستعدون لخوض معركة، إلا أن السعادة التي كانوا يعيشونها جعلتني استغرب"، مضيفاً"كثيرون فوجئوا بهذه المسيرة الوداعية وقاموا بتوثيقها من طريق كاميرات الموبايل، حتى أطفالي أصبحوا يصفقون ويرددون الأهازيج، على رغم أنهم لم يعيشوا هذه الطقوس مطلقاً، بحكم سكنهم في مدينة الدمام البعيدة عن الطقوس الشعبية، وحفظوا تلك الأهازيج ومن المؤكد أنهم سيرددونها في الطريق، فتأثرهم كان واضحاً". يُشار إلى أن قرى الأحساء تحتفل بوداع رمضان في آخر ثلاث ليالٍ منه، ويسمع المار بتلك القرى قرع الطبول الممتزج بصوت الأطفال، وجعلت الألحان الشعبية من"الوداع يا الوداع"مقطوعة فنية يحفظها المحتفلون بها.