في كتابه الصادر بعنوان"النقد الأدبي المعاصر في المملكة"، يقترب الشاهد من ارض شهادته ويقترن التاريخ بضميره الحي، ويغدو الدكتور الشنطي مثالاً ملموساً على حقيقة ما يشبه المجاز في قولنا:"سيحفظ التاريخ للمخلصين والمتوارين - خلف حجب الصمت ? الفضائل المنسية التي اجترحوها ذات يوم". والكتاب الصادر في مجلدين ضخمين نافت صفحاتهما على الألف ومئة صفحة عن"دار الأندلس"في حائل، يستحق الاحتفاء والتقدير والمناقشة أيضاً. وباعتقادي أنه سيغدو واحداً من أهم المراجع وأغناها في سياق التاريخ للحركة النقدية في المملكة، لأنه شهادة مشارك فاعل في مشهد حراكها الثقافي وانفتاحها على التجديد، وثمرة انشغال طويل على بلورة مسارات تيارها الواقعي في حواره مع آلياته أولاً، ثم في جدله المعرفي مع التيارات الأخرى، التي أصبحت ساحتنا الثقافية ومنذ أواخر السبعينات إحدى بؤر تفاعلها وصخبها واحترابها أيضاً. ولعل من اللافت في هذا الكتاب وسيرة مؤلفه، ما نلحظه من قدرة على المتابعة وتطوير الذات والانفتاح على الآخر، بحيث لم يغلق الشنطي نوافذه على حصيلته المعرفية وعدته النقدية التي تنتمي لمخاضات الستينات، بل استجاب لتحديات المناهج والتيارات النقدية والألسنية والحداثية، فقام بجهد فردي تثقيفي عميق أهّله لحوار تلك التيارات من داخل حقولها والإفادة من خبراتها وآليات مقاربتها للأعمال الإبداعية، من دون التخلي عن بوصلة المنهج والرؤية التي ينتمي إلى شجرتها، التي عمقتها دراسته للحصول على الدكتوراه. لن تخطئ العين وهي تتابع قراءة هذا السفر، ما يتمتع به الدكتور الشنطي من شمولية الرؤية وحضور الشاهد والمؤرخ، وجلَد الباحث والمتابع لما احتضنته صحافتنا الأدبية خلال ربع قرن من اجتهادات نقدية ومعارك ثقافية، وأن يستحضر كل رموز تياراتها المتعارضة من محمد مليباري وعوض القرني إلى الدكتور الهويمل وأبي عبدالرحمن بن عقيل إلى محمد العلي والغذامي والسريحي. كما استطاع ان يتابع جلّ ما نشرته المطابع من نتاج نقدي محلي، محاوراً وممارساً لعملية نقد النقد، التي تشترط الاطلاع على مناهج الآخر ومرجعياته، لكي يتمكن من مقاربتها والتحاور معها. وصاغ كل تلك القراءات والمداخلات بلغة دقيقة في مصطلحها، شفافة في تعبيرها ومتسامحة، نأت بالرأي والدرس النقدي عن التعصب الإيديولوجي والانغلاق الثقافي الأعمى، مسهماً بكل جدارة في التأسيس لمناخ ثقافة الحوار والتسامح القائمة على ركيزتين هما: معرفة الآخر واحترام الاختلاف معه، وعدم إغفاله حين يحضر ضمير كتابة التاريخ النقدي وتدوين الشهادة. يتعرض الدكتور الشنطي في الفصل الثالث من كتابه للحديث عن تفاعلات الحساسية الجديدة الحداثة في ساحتنا الثقافية، ويصدّره بعرض لجذور المصطلح وتجلياته المختلفة في الثقافة الغربية، ثم يتبعه برصد شامل لجهود أبرز الأدباء والنقاد العرب، الذين تأثروا بالمصطلح وعملوا على تبيئته في المناخ الثقافي العربي والمحلي. وعلى رغم أن كتاباً بهذه الرحلة الشمولية لا يمكن أن يستوعب عرض المنطلقات العامة للحداثة في كل مصادرها الأصلية، إلا أنه حاول رسم صورة بانورامية شاملة عنه وعن تأثر المثقفين العرب به، ولكنه بقي ممسكاً بالجهد الأساسي المنصب على متابعة جدل ارتباط الحراك الثقافي المحلي في بعض تجلياته بآفاقه العربية والعالمية. وركز على الجانب الفني في حركة الحداثة، متخففاً من الدخول في تفاصيلها الفكرية والفلسفية، ولعله بذلك ينطلق من تفاعل ساحتنا المحلية مع هذه الحساسية، التي تركزت منذ السبعينات في مساري البحث عن آفاق ممكنة للحرية الإبداعية والتجديد أو التجريب الفني في شكل خاص. وإذ لا يمكن لنا أن ننعزل عن ما يجري في العالم، وفي حقل الثقافة تحديداً، إلا انه كان من الممكن لساحتنا الثقافية أن تستمر في وتيرة التجديد بشيء من اليسر الطبيعي المصاحب لحركة تطور المجتمع، لولا دخول ما ليس أدبياً في المعترك الأدبي، إذ دخلت أطراف أخرى من خارج الحقل الأدبي - محملة برؤية أو بقراءة إيديولوجية وتحزبية - لتقوم بعملية تأويل ومصادرة لكل الجهود الإبداعية والتنظيرية المنتمية إلى تيار التحديث والحداثة، فكان ذلك كافياً لإشعال فتيل المواجهة القاسية. وعمل الشنطي على متابعة تفاصيل تلك الاختلافات، فجاء عمله شاملاً ومغطياً لفترة طويلة، ولكن كثافة المادة أسهمت في وجود بعض الهنات الصغيرة في هذا المؤلف، مثل تكرار الاستشهادات ذاتها، وكثرة الأخطاء المطبعية، وبعض حالات عدم الدقة في ترتيب أسماء النقاد بحسب أدوارهم ومراحلهم مثل محمد العلي ونسيان بعض المشاركات النقدية للكتاب البارزين مثل غازي القصيبي، كما لم يتم توثيق الردود على كتاب الشيخ عائض القرني، التي لم تسمح الصحافة المحلية بنشرها، فقام أصحابها بتوزيعها في أوساط المثقفين أو بنشرها في الصحف الخليجية. ولعل أهم الملاحظات هو ما يتعلق بحجم الكتاب وتبويبه، بحيث كان من الأفضل توزيعه في مواضع عدة متسقة يتم نشرها في سلسلة كتب قد تصل إلى الخمسة. ولأهمية هذا الكتاب، لاشتماله على عرض ومناقشة الجهود النقدية لأكثر من سبعين ناقداً وكاتباً وأكثر من ثلاثين مؤلفاً نقدياً محلياً، فإنني أدعو إلى عقد ندوة متخصصة حول هذا الكتاب وتتويج ذلك بتكريم مؤلفه على مجمل إسهاماته في حياتنا الثقافية والنقدية على وجه الخصوص.