لا يعدم المرء كتابات ذات توجهات متباينة، الا انها تتفق على ان الجريمة مآلها الانقراض، تأسياً بأن البشرية كافحت وما زالت صور الانحراف المختلفة، وهي لن تدخر ما في وسعها، لكي تعيش في سلام اجتماعي دائم وطمأنينة نفسية مطردة، وحينئذ لن تكون بحاجة الى ضوابط رسمية يقع القانون في طليعتها. وثمة اسئلة تفرض ذاتها في هذا الشأن لعل ابرزها: هل هذه التصورات مبنية على آمال يتبناها كتاب مثل هذه المقالات او اصحاب هذه الافكار؟ وهل ثمة نتائج بحثية تحت هذا المنحى واستخلصت حقيقة مفادها أن الجريمة الى أُفول؟ وفي الحالتين: هل هذه القناعات الشخصية مبنية على فكرة حسن النية في الطبيعة البشرية كما دعا اليها جاك روسو؟ ام ان هذه النتائج محفوفة باجتهادات ذاتية يمكن تعريتها بسهولة سالخين عنها المظهر الموضوعي المزعوم؟ ان الجريمة لا شك ظاهرة اجتماعية لازمت البشرية حتى في نطاقها الديني الذي ابتدأ بخطأ سيدنا آدم عليه السلام في الجنة المتمثل في عصيان امر رب العالمين عز ثناؤه الذي يقضي بتجنب تناول ثمار من شجرة معينة وكذلك جريمة قتل قابيل لاخيه هابيل. وهناك بشرية الاساطير الاغريقية التي تشير الى إجرام بعض الآلهة وتآمر بعضها على البعض الآخر، ومن يخوض في مثل هذا الموضوع لن يتردد في التطرق الى نظريات الاجرام التقليدية خصوصاً نظرية لومبروزو التي تشير الى ان المجرم يولد مجرماً كما ان نظرية فرويد جعلت من الجنس العامل الجوهري للاجرام، اضافة الى انه المحرك الاوحد كما ترى للسلوك البشري في المجتمع. يضاف الى ما تقدم ان نظرية ماركس جعلت من العامل الاقتصادي الانتاجي تحديداً المؤثر الاكبر في نشاط وتطور البشرية. ان هذه النظريات وما يستنتجه المرء من مجريات الواقع الاجتماعي المعاصر يكشفان بما لا يدع مجالاً للريب ان الاجرام ظاهرة ملازمة للطبيعة البشرية وآية ذلك ان الفرد اميل الى تغليب مصلحته الشخصية على مصلحة الآخرين الجماعة كقاعدة عامة، والاستثناء شاذ غير قابل للقياس عليه، فهذا الفرد يحسد ويحقد لاسباب غير وجيهة في الاغلب الاعم، وبعض الجرائم الكبيرة تنطوي على بشاعة في التفكير ووحشية في التنفيذ وترتكب من اجل اسباب تافهة قياساً على نتائجها الخطيرة. ومثل هذه الجرائم ليست جرائم رائجة او شائعة، وهذا كلام لا يخلو من صواب، ولكن لو تعمقنا في كثير من حوادث الغيبة والنميمة التي لا تنتهي الى اقتراف جرائم وتفحصناها سواء في اطار المنظور الديني او المنظور الاخلاقي او حتى المنظور الاجتماعي الذي يتسم بقدر كبير من التساهل لاحظنا بجلاء ووضوح انها جرائم بمعنى الكلمة، واذا كان الدين والاخلاق يتفقان على الطبيعة الخطئية او الاثمية لمثل هذه الافعال، اذاً لا تتسع امامنا حجم الجريمة بمفهومها الواسع. وربما قائل يقول ان الجريمة التي يتعين ان يبقى الكلام محصوراً في نطاقها هي الجريمة الجنائية أي جريمة القانون العام وهي كل فعل مؤثر جنائياً ويعاقب عليه بموجب القانون الذي يحصر العقوبات، لأنها هي الاخرى مقننة او خاضعة لمبدأ الشرعية او مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات. حسناً ألا نلاحظ اختفاء جرائم عدة لأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت ترتكب في ظلها مضت من دون رجعة كما نلاحظ من جهة ثانية ظهور جرائم جديدة مستقاة من التطور العلمي المعاصر ووليدة الانجازات التكنولوجية الحديثة، فكلما تخسر الجريمة معركة تقليدية تربح معركة جديدة ليست في الحسبان وكأنها وحش خرافي ذو رؤوس متعددة ما ان نقطع واحداً حتى ينمو رأس جديد في مكانه. قد تبدو الصورة قاتمة وباعثة على التشاؤم، وكأن الجهود الجبارة التي يبذلها رجال الامن تراوح في مكانها من دون تقدم يذكر، والحقيقة ان الاستنتاج الاخير عار من الصواب وخال من الصدقية، فلولا جهود رجال هذا المرفق العام لاتسع نطاق الجريمة على نحو مخيف، فهؤلاء الحريصون على استتباب النظام العام بعناصره التقليدية والجديدة والمتطورة يبذلون جهوداً تبدو للبعض غير منظورة وتبدو لآخرين غير ذات جدوى، انما هم في حقيقتهم يقومون بوظيفة هي واضحة للمراقب الحصيف تارة، وتتم بصمت تارة اخرى. ولو تخيلنا غياب جهاز للامن العام فان الصورة تكون جلية وهي صورة مرعبة على أية حال، لأن القوي بعضلاته سيسلب ضعيف البنية ويجرد الاشرار الآخرين اموالهم ونساءهم واطفالهم. صفوة القول في هذا الشأن ان المستقبل لن يشهد انقراضاً للجريمة وذلك لانها مرتبطة بالبشر وجوداً وعدماً، فلو بقي فردان اخيران من المسيرة البشرية بعد انقراضها فان فرصة ارتكاب جريمة ستكون لاحدهما ضد الآخر وسيكون المجرم مرتكباً لآخر جريمة في الوجود الانساني. وقد وضعت الدولة القانون لما يحوي من امر وامتناع وعقاب لغرض ملاحقة الجريمة ليل نهار والامنية العقلانية تتمثل في ان تصبح الجريمة ضمن حجمها الضئيل، وهو حجم مقبول في اطار المنطق العلمي فان المجتمع الذي يصل الى هذا المستوى يعد مجتمعاً متقدماً اخلاقياً واجتماعياً. اما الكلام عن انقراض الجريمة في المستقبل فهو كلام لا اساس له من الصحة وهو اقرب الى الهذر، فنحن بشر ولسنا ملائكة والطبيعة البشرية ممتزجة بعنصري الخير والشر، وان كان العنصر الاخير هو الغالب لدى معظم الناس، واذا كان تكييف البشر بهذا الوصف من جانبنا فهم أي الناس يعدونه سلوكاً عادياً لا غبار عليه وهذا الاختلاف في وجهة النظر يفسر مدلول الآية الكريمة"واكثرهم للحق كارهون". *أستاذ قسم العدالة الجنائية في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية