بعد الانهيار الكبير الذي حدث في سوق الأسهم السعودية في الأسابيع الماضية، أرى أنه لا مناص من البحث عن حلول لوضع هذه السوق، تستنبط من شريعتنا العظيمة المنزلة من رب العالمين. وقد درست المجامع الفقهية المعاصرة التي تمثل الأمة الإسلامية، سوق الأسهم والسندات أو سوق الأوراق المالية، فبينت حكمها والبدائل الشرعية للمحرم منها. إذ درسها المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكةالمكرمة في دورته السابعة المنعقدة في عام 1404ه وأصدر فيها القرار الآتي:"إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع البورصة، وما يعقد فيها من عقود: بيعاً وشراء على العملات الورقية وأسهم الشركات، وسندات القروض التجارية والحكومية، والبضائع، وما كان من هذه العقود على معجل، وما كان منها على مؤجل. كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين والمتعاملين فيها. أ فأما الجوانب الإيجابية المفيدة فهي: 1 أنها تقيم سوقاً دائمة، تسهل تلاقي البائعين والمشترين، وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة، على الأسهم والسندات والبضائع. 2 أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية والتجارية والحكومية من طريق طرح الأسهم وسندات القروض للبيع. 3 أنها تسهل بيع الأسهم وسندات القروض إلى الغير والانتفاع بقيمتها، لأن الشركات المصدرة لها لا تصفي قيمتها لأصحابها. 4 أنها تسهل معرفة ميزان أسعار الأسهم، وسندات القروض والبضائع، وتموجاتها في ميدان التعامل، من طريق حركة العرض والطلب. ب وأما الجوانب السلبية الضارة في هذه السوق فهي: 1 أن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق، ليست في معظمها بيعاً حقيقياً، ولا شراء حقيقياً "لعدم حصول التقابض فيها بين طرفي العقد، فيما يشترط له التقابض في العوضين كعقود الصرف، أو في أحدهما كبقية البيوع. 2 أن البائع فيها، غالباً يبيع ما لا يملك من أسهم أو سندات قروض، على أمل شرائه من السوق، وتسليمه في الموعد، من دون أن يقبض الثمن عند العقد، كما هو الشرط في بيع السلم. 3 أن المشتري فيها غالباً، يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يبيعه أيضاً لآخر قبل قبضه، إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير الذي قد يرغب في تسلم المبيع من البائع الأول، الذي يكون قد باع ما لا يملك، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية. بينما يقتصر دور المشترين والبائعين - غير الأول والأخير - على قبض فرق السعر في حال الربح، أو دفعه في حال الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المتقامرين تماماً. 4 ما يقوم به المتمولون من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق، للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون، على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل، والتسليم في حينه، وإيقاعهم في الحرج. 5 أن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة "لأن الأسعار فيها لا تعتمد كلياً على العرض والطلب الفعليين من المحتاجين إلى البيع أو إلى الشراء، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق أو من المحتكرين للسلع أو الأوراق المالية فيها"كإشاعة كاذبة أو نحوها، وهنا يكمن الخطر المحظور شرعاً، لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية في الأسعار، ما يؤثر في الحياة الاقتصادية تأثيراً سيئاً، وعلى سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم أو سندات قروض، فيهبط سعرها لكثرة العرض، فيسارع صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل، خشية هبوطها أكثر وزيادة خسارتهم، فيهبط سعرها مجدداً بزيادة عرضهم، فيعود الكبار إلى شراء هذه الوراق بسعر أقل، بغية رفع سعرها بكثرة الطلب، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهم صغار حملة الأوراق المالية "نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة، ويجري مثل ذلك أيضاً في سوق البضائع. ولذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد اطلاعه على حقيقة سوق الأوراق المالية والبضائع البورصة وما يجري فيها من عقود عاجلة وآجلة على الأسهم وسندات القروض، والبضائع والعملات الورقية، ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقرر ما يأتي: أولاً: إن غاية السوق المالية هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة، يتلاقى فيها العرض والطلب، والمتعاملون بيعاً وشراء، وهذا أمر جيد ومفيد، ويمنع استغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين، الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع، ومن هو المحتاج إلى الشراء. ولكن هذه المصلحة الواضحة، يواكبها في الأسواق المذكورة البورصة، أنواع من الصفقات المحظورة شرعاً، والمقامرة، والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها، بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها كل واحدة منها على حدة. ثانياً: إن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع، التي يجري فيها القبض في ما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعاً، هي عقود جائزة ما لم تكن عقوداً على محرم شرعاً، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع، فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه. ثالثاً: إن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات، حين تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعاً، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعاً، كشركات البنوك الربوية، وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعاقد في أسهمها بيعا وشراء. رابعاً: إن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعاً"لأنها معاملات تجري بالربا المحرم. خامساً: إن العقود الآجلة بأنواعها التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية البورصة غير جائزة شرعاً"لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك اعتماداً على أنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد وهذا منهي عنه شرعاً، لما صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:"لا تبع ما ليس عندك". وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". سادساً: ليست العقود الآجلة في السوق المالية البورصة من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين: أ في السوق المالية البورصة لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، بينما الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد. ب في السوق المالية البورصة تباع السلعة المتعاقد عليها - وهي في ذمة البائع الأول - وقبل أن يحوزها المشتري الأول بيوعات عدة، وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه. وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي: أنه يجب على المسؤولين في البلاد الإسلامية، ألا يتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة، تتعامل كيف تشاء في عقود وصفقات، سواء كانت جائزة أم محرمة، وألا يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاؤون، بل يوجبون فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعون العقود غير الجائزة شرعاً، ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية، ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين "لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شيء، قال الله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون. انتهى. أما مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي فأصدر القرار بعد الاطلاع على ما تناولته البحوث المقدمة بشأن نظم وقوانين الأسواق المالية القائمة وآلياتها وأدواتها تقرر: أولاً: أن الاهتمام بالأسواق المالية هو من تمام إقامة الواجب في حفظ المال وتنميته باعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة وأداء ما في المال من حقوق دينية أو دنيوية. ثانياً: أن هذه الأسواق - المالية مع الحاجة إلى أصل فكرتها - هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية. وهذا الوضع يتطلب بذل جهود مشتركة من الفقهاء والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة، وما تعتمده من آليات وأدوات وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية. ثالثاً: أن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية وإجرائية "ولذا يستند الإلزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة في ما يندرج تحت أصل شرعي عام ولا يخالف نصا أو قاعدة شرعية، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم به ولي الأمر في الحرف والمرافق الأخرى، وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها ما دامت مستوفية الضوابط والأصول الشرعية". وبناء على هذه القرارت المجمعية، فإنني أؤكد الاقتراح الذي سبق أن طرحه بعض العلماء والاقتصاديين، وهو تشكيل لجنة من علماء الأمة المختصين في المعاملات المالية، مع فريق من المختصين في الاقتصاد والأسواق المالية، بحيث تربط هذه اللجنة بهيئة كبار العلماء من الناحية الإشرافية والإدارية، وترتبط فنياً بمؤسسة النقد العربي السعودي، للنظر في معاملات ثلاثة قطاعات كلها مرتبطة بالمؤسسة وهي: سوق المال التي نحن بصددها، والبنوك، وشركات التأمين، والتأكد من التزامها بفتاوى وقرارات المجامع وهيئات الفتوى الفقهية، لكي نسير باقتصادنا على هدى من شرع الله سبحانه، فهو أعلم بعباده وبما يصلح حالهم. * أستاذ السياسة الشرعية المساعد في معهد الدراسات الديبلوماسية.