كيف يمكن قراءة التطورات المتسارعة على الساحة الإقليمية من دون أن تكون هناك أسس موضوعية لمعرفة عمق النتائج المترتبة على هذه المتغيرات؟ لا شك أن غياب فهم الأبعاد الاستراتيجية للقرارات الدولية سيؤدي بالضرورة إلى تحليلات خاطئة بعيدة من ارض الواقع. وأجدني في حيرة من أمري حين يرى البعض أن تعبير الناس عن النشوة الوطنية عند فوز فريقهم الكروي أو إصابتهم بخيبة الأمل حين يتراجع نجمهم المفضل في برنامج ستار أكاديمي أمر عفوي وصادق، وهذا نشاهده في معايشة واقعية في وطننا العربي، لكن تنقلب النظرة في تقويم مشاعر الفخر والاعتزاز التي يعبر عنها المواطن الإيراني بعد امتلاك بلادهم التقنية النووية في عملية تخصيب اليورانيوم، فتكون المشاعر غير صادقة، ويكون التركيز على أن إيران تعاني من مشكلات اقتصادية وغموض في معرفة مستقبل الأجيال القادمة من حيث توفير فرص التعليم والعمل، وكأن الوطن العربي قد تجاوز كل هذه الإشكالات. مع انه في حقيقة الأمر كانت وسائل الإعلام الأميركية تستخدم الجدليات نفسها في توصيف الأوضاع الباكستانية عندما امتلكت باكستان القنبلة النووية، مع ان الظروف الدولية كانت مختلفة في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، حيث كانت هناك قوتان تسيطران على العالم قبل تفكك الاتحاد السوفياتي، وكان مجال المناورة السياسية أكثر اتساعاً. ولو أردنا أن ندخل في عملية تشويه الحقائق واعتبرنا أن وجود الفقر على أي شكل من الأشكال عائق أمام تقدم المجتمعات وتطورها التقني والعلمي لكانت الولاياتالمتحدة من أكثر الدول التي يجب ان تنال حقها من النقد، فهي لا تصرف الأموال الطائلة في التطور العلمي فقط بل تنفق ما يقارب من 4 بلايين دولار شهرياً جراء غزوها للعراق مع وجود الملايين من البشر الذين يهيمون على وجوههم في شوارع مدنها الكبرى بلا مأوى أو تأمين صحي ويقتاتون من"التسول"أو براميل القمامة من دون أن يثيروا حتى أدنى درجة تعاطف من المواطنين الاميركان. هذه المناظر توردها وسائل إعلامهم على استحياء وفي مناسبات نادرة جداً ومع هذا تحملهم مسؤولية ما آلوا إليه، لكي لا يشعر المواطن بالذنب تجاههم، لتبقى أميركا ارض الأحلام واكبر الدول استقطاباً للعمالة غير الشرعية الباحثة عن الأحلام وعن الجنة الأرضية المتخيلة، مع أن هذه الأحلام ضائعة في مجملها إلا في حالات محدودة، يتم تسليط الضوء عليها لتصبح وكأنها القاعدة، أما استغلال العمالة غير الشرعية للقيام بالأعمال التي يتعفف عنها الأميركيون وبأجور منخفضة جداً فهذه من المسلمات التي يتقبلها العالم على انها من الامور الطبيعية طالما ان المجتمع الأميركي هو الذي يمارسها، وبطبيعة الحال لا تجد من يستغرب أو يستنكر هذه السلوكيات، لان عنصر القوة وعلى مر التاريخ الإنساني هو الذي يحدد معايير الخطأ والصواب وأيضاً القيم الأخلاقية. لا يوجد عاقل يشكك في القدرات الاميركية الهائلة سواء الاقتصادية منها أو القوة العسكرية التي تملك القدرة على تدمير العالم بأسره كما يعلن المحللون العسكريون، ومع هذا فان وجود القوة الهائلة لم تخف شعوب أميركا اللاتينية في انتخابات حكومات ممانعة للسياسات الأميركية الخارجية، ولم تخف اسبانيا ولا حتى ايطاليا التي وعد رئيس وزرائها المنتخب رومانو برودي بسحب قواته من العراق فور استلامه للسلطة، هذه الحكومات والشعوب لا تطلب معاداة الولاياتالمتحدة وليس لها مصلحة في ذلك، إنما تشترك كلها في هدف واحد هو استقلالية قرارها وتغليب مصالحها الوطنية على المصالح الاستراتيجية الاميركية. ولكن من المؤسف انك تجد بعض التحليلات السياسية في الوطن العربي تصور ايران وكأنها هي التي تسعى لمعاداة الولاياتالمتحدة مع ان الإدارة الأميركية نفسها لن تجد هذه المرة مبرراً أمام شعبها في عملية التلويح باستخدام القوة العسكرية ضد إيران سوى حماية مصالح وأمن إسرائيل حليفتها الاستراتيجية في المنطقة. والغريب في الأمر أن الإدارة الأميركية تريد معاقبة إيران على نواياها وليس على سلوكها الفعلي، لأن كل ما فعلته إيران حتى الآن ينسجم مع الشرعية الدولية ولا يخل باتفاقات الحد من انتشار الأسلحة النووية بأي حال من الأحوال، وعلى هذا الأساس بدأت تبرز بعض الأصوات الأميركية سواء من المحللين السياسيين او من رجالات الكونجرس ببعث إشارات إلى أن امتلاك إيران للأسلحة النووية يحتاج ما بين خمس وعشر سنوات، لذلك فان الضربة العسكرية ليست ملحة في الوقت الراهن، وما زال هناك متسع لاستخدام الوسائل الديبلوماسية للحيلولة دون امتلاك إيران للأسلحة النووية، ومع أن الإدارة الأميركية الحالية بإيدلوجيتها المتطرفة لا يمكن الحكم على تصرفاتها بشكل قاطع الا ان تاريخ الحكومات الاميركية السابقة لا يمكن وتحت أي ظرف من الظروف ان تورط نفسها في مغامرات عسكرية غير مضمونة النتائج في سنة انتخابية. وللأسف فان الحرب النفسية التي تشنها الإدارة الأميركية ضد إيران أوهمت الكثيرين بان الحرب او الضربة الجوية وشيكة الوقوع، وهذا ما سيسهم في إرباك اقتصاديات العالم وقد تكون العملية مقصودة والهدف منها التأثير في النمو الاقتصادي لدول آسيا خصوصاً الصين. وعلى رغم كل الظروف فان إيران لا تحتاج ان تأخذ الترخيص من الولاياتالمتحدة لتصبح قوة إقليمية كما يتبنى البعض هذه الفرضية، والقوة سواء كانت إقليمية او دولية تبنى على أسس ذاتية وموضوعية تنتزع من الآخرين بحسب مقدار هاتين القوتين الذاتية والموضوعية وكيفية فهمهما وتوظيفهما. فالقوة الذاتية هي القدرة على توظيف الشروط الموضوعية التي تفرضها على الآخرين، وهذه من السنن الكونية، فالذي لا يملك قراره لا يمكن للآخرين احترامه، فهل مثلاً يستطيع المواطن العربي ان يساوي في احترامه وتقديره بين الحكومات العربية في طريقة تعاملها مع الحكومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس المعزولة دولياً ومع ان الكل ينتمي إلى امة واحدة إلا ان المواطن يستطيع التمييز بين حكومة عربية مثل الحكومة السعودية التي تفتح أبوابها للحكومة الفلسطينية بغض النظر عمن يقودها وتدعمها معنوياً ومادياً من دون الخوف من أي كائن كان وهو تعبير ضمني عن فهمها للشروط الذاتية والموضوعية التي تتمتع بها، والقيادة التي تعبر عن إرادتها المستقلة تعرف جيداً ظروفها الموضوعية لأنها ليست بحاجة إلى معونة احد، فالقوة الاقتصادية والمكانة السياسية والدينية توظفهما قوة الإرادة والحفاظ على الكرامة فليس من المعقول ولا من المقبول أن تطالب الإدارة الأميركية كشف حساب عن الأموال السعودية المقدمة للشعب الفلسطيني، لذلك لن تطالبها بذلك وعلى هذا الأساس ايضاً بنت القيادة السعودية موقفها من الملف النووي الإيراني وعبرت عن إرادتها المستقلة، وانه لن يستخدمها احد كوسيلة ضغط، لان ليس لها مصلحة في ذلك. ومن هذا المنطلق فان القوة الإقليمية هي إرادة بالدرجة الأولى وإذا ما تراجعت قوة إقليمية أخرى عن دورها بسبب ظروفها الذاتية والموضوعية فلتبق على الأقل القوتان الإقليميتان السعودية وايران قوى الممانعة ضد المشروع الأميركي الصهيوني في السيطرة على المنطقة وكل بحسب طريقته. * أكاديمي سعودي