{ بدأ الناقد الشاب محمد الدبيسي نشر مقالاته النقدية في بداية التسعينات، وكان في ذلك الوقت يعد في مقدم جيل نقدي جديد، أخذ بدأب على طرح تصوره ورؤاه إلى العالم. بدأ مبشراً بكتاباته ومتابعاته لتجليات المشهد الأدبي، وعمل اشتغاله النقدي، إضافة إلى اشتغال آخرين، على دفع المشهد النقدي إلى التنوع، بطرح أكثر من مشروع، وأكثر من اسم نقدي. لكن الدبيسي من جهة، وإن ظل بالمتابعة نفسها والانهماك النقدي عينه، كأنما راح يذعن لسطوة العمل الصحافي في الزميلة"الجزيرة"، فلم يصدر كتباً جديدة بعد كتابه الأول"ذاكرة الصحراء"، الذي وضع الدكتور عبدالله الغذامي مقدمة له. لكن في الإجمال لا يزال يقدم قراءات تتميز بالرصانة، وتعكس رغبة حقيقية في الوجود وفي التأثير والتأثر. كما يعبر الدبيسي عن نشاط وحماسة شاب، لم يستجب للإحباطات والمنغصات التي تتوالى على الواقع الثقافي، وظل بالحيوية والمثابرة نفسها التي بدأ بها. هنا حوار معه: تشتغل في حقل النقد منذ سنوات ليست قليلة، وكنت من أوائل الشباب الذين أصدروا كتباً... كيف ترى تجربتك في ضوء ما تحقق على الصعيد النقدي في المملكة؟ - لستُ معنياً بتقويم تجربتي... نظرياً على الأقل وفي إطار تمرتبها في حقل التجارب النقدية السائدة، لكي أمنحها حظوة تأثير، أو منقبة تميز!. فمهمة رصدها أو تقويمها واستنطاق أثرها، منوط بالضرورة بمن يقرأ ويتلقى ويُِقوم. وقد تكون مهمة جيل يأتي بعدنا، ويرصد ما قدمناه...! أما على صعيد همي الثقافي، والدور الذي آنس في نفسي أهلية القيام به، فهذا ربما لا يعني الآخرين! ولاسيما في مستوى مراحله وإجراءاته وآلياته لدي. كتابي الأول"ذاكرة الصحراء"أنجزته وأنا في مرحلة دراستي الجامعية، ولم يخل من انطباعية ذاتية، وتناول محكوم بانفعالي أوتفاعلي العاطفي مع وبتجارب شعرية اعتقدت في أدواتي حينها، كفاءة في الكتابة عنها أو التناص معها. ومع أنه قُدم بقلم الناقد عبدالله الغذامي، الذي رأى فيه"صوتاً لجيل يعبر عن نفسه"! فلم تحل شهادة ذلك الرائد، دون أن أعتذر عن ملاحظاتي على الكتاب، بأنه ابن زمنه، ونتيجة مستوى وطبيعة ثقافتي وتفكيري حينها، كطالب في الجامعة الإسلامية، فأنا وبشجاعة متأخرة، بريء من كثير مما في ذلك الكتاب. على رغم إخلاصك للنقد، إلا أن المتلقي يلاحظ عدم تبنيك لمنهج نقدي بعينه، وأن ما تكتبه يصعب كثيراً رده إلى أي مدرسة نقدية لها ملامحها المحددة... كيف ترى هذه المسألة؟ - على رغم التباس مصطلحي مدرسة ومنهج في سؤالك بالنسبة إليّ...! وعلى رغم عدم إدراكي لمكمن الصعوبة لديك، فإنني أنظر إلى المنهج بوصفه مجموعة من الخطوات أو الإجراءات الاداتية المتضافرة، التي تتسم بالاتساق في ما بينها، وتخص ميداناً من ميادين المعرفة، ويتضح هذا النسق بكونه يمثل الموقف من الآخر، أو من شبكة التطورات المعرفية الجاهزة ذات الامتدادات المختلفة. وقد نتفق بدءاً على تحييد الموقف، الذي يشكك في جدية المنهج وجدواه في حقل الدراسات النقدية، وترسيم حدود نظرية الأدب!.وهذه وجهة نظر نقدية بحتة في ميدان نظرية التلقي. أما من يحاول البحث عن خيط علاماتي فارق، أو سمة حرفية لما أكتبه، ليحيله - ووفقاً لتأويل نصي مجرد - إلى مدرسة بعينها، فلن يجد. لأن ممارسة تلقي من هذا النوع لا جدوى من ورائها. وأحيلك إلى ناقد لا منهجي بحجم محمد العباس، بمتابعاته الدقيقة ومستوى تناولاته، وتمايزات خطه النقدي، لتقيس الشاهد على الغائب، في ممارسة نقدية تتشكل خارج كل الأطر المنهجية والمدرسية التي تبحث عنها، وهي نموذج لما أحترمه من أقلام نقدية في مشهدنا. ولا أريد أن أضعك أمام منطق إحراجي فأقول:"إن اللامنهج... منهج"على رغم يقين الانطباعيين بذلك. وبالمناسبة فالانطباعية لدي ليست مسبة أو منقصة!، بل مستوى من مستويات الرؤية، إذا ما عُضدت بمعطيات معرفية، واستقامت وفقاً لذائقة خلاقة. تشكلات المنهج وحدوده الإجرائية كانت مرتبطة بحدود العصر المعرفية، ما يسهل أن ندرك أن انفتاح نقدنا القديم إجرائياً على الرافد المنطقي اليوناني، وحضوره في كتابات نقادنا ولاسيما قدامة بن جعفر وحازم القرطاجني، كان استثماراً معرفياً لم يتحجر داخل نظام ثقافة بعينها، أو منهج محدد. ومن هنا، فإنه من الصعب التزام منهج نقدي بحرفية معيارية، في حقل التجارب النقدية المنتمية نوعياً للدراسات الإنسانية، إذا استثنينا الدراسات التفسيرية والتأويلية التي تتخذ من التطبيق فاعلاً، يبسط أو يوضح فلسفة المنهج، ويكشف عن عناصرها. في رأيك هل توجد مشكلة في تحليل الخطاب الشعري عند نقادنا، وهل نستطيع تلمس بعض التمايزات بينهم؟ - نعم. إذا ما اشترطنا النظرية، والولاء المطلق لها كصيغة معيارية تحكم عمل النقاد، على صعيد الإجراء التطبيقي فثمة تمايزات. ما كتبه عبدالله عبدالجبار، يختلف عما كتبه عبدالقدوس الأنصاري، وعبدالرحيم أبوبكر، وعبدالفتاح أبومدين وعبدالعزيز الربيع، وجلهم يختلف عن محمد حسن عواد. والأخير يختلف عن الفلالي، والمرحلة برمتها تختلف عن حمولات المشهد المعاصر الحديث. جهود سعد البازعي وإلمامه واستيعابه للأدب الغربي، ولاسيما نظرياته النقدية واشتغالاته المعرفية في النسق ذاته، تختلف عما كتبه الشامخ أو عبدالله الحامد، أو حسن الهويمل، أو حتى عن عبدالله الغذامي في"تشريح النص"أو"الكتابة ضد الكتابة". التمايزات التي ذكرتها، هي نتاج للممارسة النقدية على صعيد الوصف التحليلي وليس من المنطلق المنهجي. فالمعطى هو خطاب شعري، بحمولاته المعرفية والفكرية والجمالية والدلالية، التي لا يتفق خطابنا الشعري على استنساخ صيغة موحدة لها. يشتكي الكثير من المبدعين من غياب دور الناقد في هذه المرحلة، ويزعمون أنه لا يمارس دوره بفعالية ولا يرفد الساحة برؤاه التي لا غنى للإبداع عنها حتى يقوم عطاءه ويحدد مساره؟ - شكوى المبدعين بالصيغة التي وردت في سؤالك، تنظر إلى العمل النقدي من خلال أفق تربوي آلي ضيق. فليس مهمة الناقد في نظري ملاحقة كل ما يلج إلى الساحة الثقافية أو ما ينتج منها، لتتم العملية بهذا الشكل التراتبي المقنن، تتعامل مع الإبداع كصنيع استهلاكي بحاجة إلى اختبار مباشر لمعرفة مدى جودة عناصره أو خطورتها. فاعلية النقد وجدوى الناقد، تأخذان تجليات وتطبيقات،لا يمكن النظر إليها بهذه الصيغة. الناقد يرصد وينتقي ويتابع ما يلائم ذائقته وموقفه وهمه المعرفي، في سياق منظومة إشكالات وقضايا تشغله وقناعات توجهه،وليس شرطاً أن نتحسس مواقيته بهذه الصورة. وليس خليقاً بالنقد رسم أو تحديد مسار للإبداع، وليست هذه وظيفته من منطلق تصور معرفي، فالتجارب بحاجة إلى تراكم وثراء نوعي وعددي، لتتيح للناقد استنطاق قيمتها وحمولاتها وإدراك اتجاهاتها. وهو ما لم يتحقق لدينا بعد. سواء في الشعر أو الرواية، فكلها في مرحلة تشكل وتتابع لم ينتظم بعد في صيرورة جادة وواعية. منذ الثمانينات الميلادية إلى الآن لا أرى تغيراً أو تحولاً في الأنساق والبنى الشعرية، ما يستلزم مثابرة في آلية ونظم أو مفاهيم النظر النقدي، باستثناء تجارب قليلة، لم تعدم من يرصد علاماتها وأثرها في التجربة الشعرية في بلادنا، وإن بشكل عام. وقس على ذلك التجربة السردية، التي يُراد الاحتفال بها عبر متابعات ومظاهر تسويقية من البعض، قد تطفئ وهج تجربة لاتزال في طور النشوء والارتقاء. المشهد الثقافي المحلي، كيف يمكن أن تنظر إليه، وكيف ترى المستقبل؟ - أرى المستقبل بتفاؤل مشوب بحذر...؟ أن يصبح للثقافة مؤسسة ومرجعية داعمة ومنظمة للعمل الثقافي، وواعية بأهمية وقيمة الثقافة، فهذا ما يرسم للتفاؤل في نفسي نطاقاً لا حدود له، ولاسيما ان الكادر الإداري لهذه الوزارة استوعب المثقفين الحقيقيين، من المعنيين بالثقافة، أصالة لا نيابة وادعاء، والممارسين لأدوار عدة في مشهدها. وأتمنى أن لا يكون هذا التفاؤل المبني على ما ذكرت، مطية للعاجزين والكسالى والمعوقين فكرياً، والذين ينظرون لهذه الوزارة نظرتهم لأي جهاز خدمي، يتمم لهم ترف الدعة، ويغطي ببرستيجه الرسمي، ضحالة وعيهم وانعدام أهليتهم لأداء دور ما في هذا المشهد... وجود الوزارة لا يخلق ثقافة، هذا ما أتمنى أن يعوه، فالوزارة جهاز تنظيمي، تال لوجود وممارسة العمل الفكري، وليست منتجاً له. كما أنني حذرٌ من أن يمارس الحرس القديم. وحُجَّاب الفضيلة المزعومون وصايا على حرية الكلمة وحرية الفكر، والفعاليات الثقافية والفكرية في بلادنا، ويوجهون مساراتها. الرواية حضرت لأنها الصيغة الألصق بالفضاء الاجتماعي بيّن الدبيسي أن الرواية حاضرة بقوة في السنوات الأخيرة لأنها الصيغة الألصق بالفضاء الاجتماعي، والأصدق في التعبير عن تشكلاته وتشابكاته المختلفة، ولأنها الأفق الإبداعي المتاح للتوازي مع التغيرات والتحولات المجتمعية. والأكثر استيعاباً لها على صعيد المفاهيم والرؤى والاتجاهات، ولأنها تعيد خلق الناس، الشخصيات، وتتبادل الإضاءات وتطرح الأسئلة وتتجاوز حصرية نموها النصي، ترافقنا وتتعالق بنا ومعنا، تفضح جوانا السحيق ودواخلنا المحجوبة عنا، ولأنها صيغة كشف عن النسيج الاجتماعي في مستواه الحياتي الحي والنابض. الأكثر قابلية لإشباع النهم الذاتي في الناس، لقراءة واقعهم في صنيع إبداعي يحمل الموقف لحظة تشكله وتداعياته، في نطاق جمالي لا يتوافر لكل كاتب رواية. الكون يتجه وبسرعة مضادة لسرعته في اتجاه اللاعقلانية، وانعدام الجدوى والإحساس بالسأم، ورهبة المفاجآت والتغيرات وتواليها الفاجع، إلى محاولة أسر لحظات التأمل، والالتزام العفوي بعقلانية قياس الأشياء وتأملها، النفور من هذا الجنون الكوني، إلى ما يشبه كتابة سيرة كونية لتاريخ الإنسان المسحوق في كل تلك الغياهب. ربما كانت الرواية النسق الكتابي الأكثر من الشعر صدقاً ووعياً واستيعاباً لتفاصيل كهذه.