على رغم أن معظمنا لا يشرفه أن يُنعت بال"ثرثار"، غير أنه من الناحية الفعلية بين كل خمسة منا"ثرثار". لا تستند هذه المعلومة قطعاً إلى دراسة علمية أو إحصاء موثق، بقدر ما تنسجم مع التعريف الذي يرى أن"أي كلام غير نافع يعدّ ثرثرة". لكن أصل المفردة التي أضحت في الثقافة العربية رديفة الأنثى والمتملقين من الشعراء، بات لها في عالم اليوم أكثر من فائدة ومجال استخدام، من جانب المرأة والرجل على حد سواء. على أن النساء خصوصاً لا يرضين بوصفهن منتجات للثرثرة أكثر من الرجال، فالاختصاصية في علم النفس والأعصاب الدكتورة سعاد يماني تجزم أن"استهلاك الكلام بالكثرة - الذي نعبر عنه نحن العرب بالثرثرة - ليس حكراً على الأنثى دون الرجل، فهو سلوك نابع من دواعي الفراغ، وربما لكون نصيب المرأة الشرقية أكبر من الرجل في هذا المجال، أصبح البعض أحياناً كثيرة يربطه بالنساء". والثرثرة يعرّفها اللغويون كما في الصحاح بأنها"كثرة الكلام، يقال رجل ثرثار ومهذار"، وعلى رغم الموقف الشرعي منها في قول النبي - صلى الله عليه وسلم-:"أبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون"، وقوله:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، إلا أن هذه الخصلة تجاوزت كونها استهلاكاً للوقت إلى أن أصبحت وسيلة علاجية، وطريقة جديدة مبتكرة لترويج السلع. وتجزم أستاذة علم الاجتماع في جامعة الملك سعود الدكتورة آمال عبدالرحيم، بأن"النظرة الاجتماعية إلى الثرثرة بغض النظر عما إذا كانت ذميمة أو حميدة مرتبطة بالثرثار، والظروف التي يمر بها والمحيط الذي هو فيه، فمثلاً نرى البعض يمتهنون الثرثرة في المجالس والمنتديات العامة رغبةً في الحضور والوجود الاجتماعي، بغض النظر عن الآراء التي يدلي بها أو الأحاديث التي يخوض فيها". وأجزاء من هذه الشريحة تقوم بذلك أحياناً بحسب عبدالرحيم"للتعويض عن نقص داخلي مسيطر أو عن فراغ، فظاهرة الفراغ على سبيل المثال بين السيدات هي ما يدفعهن إلى أحاديث غير مبررة، خالية من أي معنى أو عديمة الفائدة، في اللقاءات بين صنوف النساء قديماً وحديثاً". أما مواضيع الثرثرة المعتادة اجتماعياً، فهي أيضاً في نظر عبدالرحيم"مذاهب وألوان تتأثر بالأعمار والاهتمامات، فربات البيوت - مثلاً- يجلسن ساعات طويلة لا يتحدثن إلا عن الطفل العنيد والزوج الكريه أو الحبيب وابنة فلان الجميلة أو القبيحة، بينما تشاركن النساء العاملات في الحديث عن عملهن وطموحاتهن في المستقبل". وهل صحيح أن الرجل هو صاحب الحضور الأبرز في ثرثرة النساء؟ لا تنكر عبدالرحيم ذلك، إلا أنها ترى"الأسهم السعودية في الآونة الأخيرة اكتسحت ثرثرة النساء، وأضحى الرجل في المرتبة الثانية، بعد أن كان يحتل صدارة ثرثرات النساء غالباً". ويلتقي الشبان والفتيات الثرثارون عند اهتمامات متقاربة يستحوذ عليها"الحديث عن الجنس الآخر". فالشاب محمد 21عاماً لا تذهب ثرثرته مع أصدقائه بعيداً من"فتاة أحلامه، ومغامراته العاطفية، والاتصالات، والشات، وأيام الامتحانات الجامعة، وربما الأسهم إذا كان أحد الطرفين مساهماً في السوق المالية، غير أن التكنولوجيا بوجه عام تحتل أكثر الوقت". أما سلوى فإنها لا ترى أن ثرثرة ابنتها مع صديقاتها تخرج كثيراً عما أشار إليه محمد، إذ تقول:"أستمع إلى الحديث الذي يدور بين ابنتي وزميلاتها، فأسمع عن هموم المدرسة، والتعامل مع المعلمات، وكيف يحصلن على الإعجاب من جانب النساء والذكور، وكيف يحظين باهتمام المجتمع وبأزواج يخطبونهن، إضافة إلى الأزياء والموضة". وفي جانب علم النفس تنفي الاختصاصية النفسية الأميرة مها آل سعود أن تكون الثرثرة مصنفة ضمن العلاج السلوكي والنفسي الذي ينصح به أطباء علم النفس، على حد علمها. ومع جزمها بأن"الثرثرة لا يمكن أن تكون علاجاً"إلا أنها أقرت بأن"أطباء النفس يعتبرون"التفريغ"? الذي ترفض أن يُسمى ثرثرة - أحد أنماط العلاج النفسي، إن لم يكن علاجاً قائماً بذاته". وتشير إلى أن طبيب النفس تختلف نظرته إلى الثرثرة داخل العيادة وخارجها،"ففي العيادة ينظر إلى الشخص الذي يثرثر أو يتحدث أمامه بإنصات واهتمام، لاعتبارات مهنية، أهمها أن الشخص يأتي إلى العيادة النفسية، ويقول كل ما في نفسه ويؤمن تماماً أن سره أو حديثه في مكان آمن، فينفس عما بداخله، أما خارج العيادة فإن نظرة طبيب النفس إلى الثرثرة تختلف بحسب نوعها والمواضيع التي تتناولها". أسلوب تسويقي جديد يعتمد على أحاديث الناس إذا كانت طرائف الثرثرة أكثر من أن تُحصى، خصوصاً إذا ما اتصلت بالمرأة، التي قيل إن فيها هرمون يحفّز على"الثرثرة"، فإن الأحاديث الجدية في جانب استغلال الثرثرة تجارياً باتت واقعاً لا محالة. ففي السنوات القليلة الماضية، استحوذت على اختصاصيي التسويق فكرة الاعتماد على أحاديث الناس وثرثرتهم في ما بينهم، كأسلوب تسويقي فعال للتعويض عن تراجع فعالية الإعلان التقليدي، بعد أن هاجمت الحملات الإعلانية التقليدية الناس في كل مكان، وتكوّن لدى المستهلكين نوع من أنواع المناعة ضدها. وتناولت الكثير من الكتب أسلوب التسويق من خلال كلام الناس في ما بينهم، إلا أن أياً منها لم يقدم أساليب للتطبيق العملي مثلما فعل كتاب أحد أهم خبراء هذا النوع الجديد من التسويق، ديفيد بالتر. هذا الأخير كما تقول شبكة"نسيج"الإلكترونية، أسس شركة متخصصة في التسويق، اعتماداً على هذا الأسلوب الجديد، وهو يعمل مديراً تنفيذياً لها، وحققت هذه الشركة معدلات نمو هائلة في سنوات قليلة، ويتعامل معها الآن جيش من الوكلاء يبلغ 75 ألف شخص من"الثرثارين"، يعملون فيها عن طريق التحدث إلى الآخرين عن المنتجات التي يحبونها، والتي تتنوع من الكتب، إلى الملابس، والعطور، والمطاعم، والمأكولات.