لعل من أصعب ما في العلوم الإنسانية ومن ضمنها علم الاقتصاد أنها تتعامل مع الإنسان الذي يتسم سلوكه بالتغير والتعدد وعدم الاستقرار، ولذا فإن ما يصلح لزيد ليس بالضرورة مناسبا لعمر وما يصلح في زمن معين لا يتناسب مع زمن آخر في معظم الأحوال. ولهذا لا يمكن في هذا الحقل من العلوم التعميم كما هو الحال في العلوم الطبيعية التي تتعامل مع الجمادات التي تتطابق في الصفات والخواص فلو وضعت قطعة من الحديد في النار لوجدت أنها تتمدد فيمكنك بلا تردد القول أن كل الحديد في هذا الكون يتمدد بالحرارة. ولعل ما دعاني لكتابة هذه السطور هو ما قرأته في هذه الصفحات منسوباً إلى وكيل وزارة المال سابقاً رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتمويل الدكتور عبدالعزيز الدخيل من ثلاثة أيام تقريباً إذ ينادي بعدم تدخل الدولة بتاتاً في السوق وعلى سبيل مراقبة الأسعار والحد من ارتفاعها، ويعلل ذلك بأن تدخل الدولة في عمل السوق يؤدي إلي التشويش على"ميكانيزم السوق"القادر على العودة للتوازن من دون أي تدخلات تصحيحية خارجية. بل ويرى أن تدخل الحكومات في آلية عمل السوق له من المفاسد أكثر من ما يجلبه من المصالح، وفي تحليل الدكتور الدخيل الكثير من المنطقية. ولكنها للأسف منطقية نظرية تحتويها بطون الكتب ومتونها أكثر مما هي واقع حياتي ملموس فمنذ أن نادى أبو الاقتصاد الحديث"آدم سميث"في كتابه"ثروة الأمم1776"بعدم تدخل الحكومة في الاقتصاد وترك الحرية للسوق التي تحركها بحسب سميث يد خفية"invisible hand "تعيد السوق للتوازن كلما حاد عنه لسبب أو آخر واطلاع الحكومة فقط بحراسة الاقتصاد" garden government "من دون التدخل فيها اعتماداً على مبدأ سميث الآخر"دعه يعبر... دعه يمر leissez-faire " وهو ما يعني إعطاء السوق الحرية للتصحيح آلياً لأن تصرفات الناس من خلال تقليل الاستهلاك في حال ارتفاع الأسعار وزيادته في حال انخفاضها بما يكفل العودة للتوازن في جميع الأوقات. ولعل رأي الدكتور الدخيل ومثله نحى عابد خزندار في عموده بجريدة"الرياض"الأسبوع الماضي وكلاهما يخالف السائد أو المبدأ الآخر الذي جاء به أبو الاقتصاد الكلي"جون مينارد كينز"في كتابه"النظرية العامة في التوظف والنقود وسعر الفائدة 1936". وفيه يرى ضرورة تدخل الدولة لضبط الاقتصاد وأيضاً إنعاشه من خلال سياساتها النقدية والمالية من إنفاق وضريبة وغيرها. وهو الرأي الذي يطالب به كتاب الأعمدة والاقتصاديين السعوديين في مجالسهم الخاصة، ولو لمراقبة الأسعار ولمنع بعض التجار من زيادة أسعار السلع بعد زيادة الرواتب بمقدار 15 في المئة. وهو رأي أرجحه شخصياً نظرا إلى قلة وعي المستهلك السعودي عموماً ولكثرة عدد البائعين من جنسيات وثقافات مختلفة قد يستغل بعضهم الزيادة في الرواتب لرفع أسعار السلع التي يبيعها. ومن أراد أن يتأكد فعليه الخروج 80 كيلو متراً فقط شرق أو غرب العاصمة ليرى بأم عينيه كم نحن في حاجة إلى مراقب الحكومة على باب كل دكان ومتجر.