الصفحة: 32 - آداب وفنون قليلون هم من كتبوا القصة القصيرة وأبدعوا فيها، قليلون أيضاً هم الذين يزاولون الكتابة الصحافية، إن في شكل يومي أو أسبوعي، ونجحوا في ملامسة هموم الناس، في أسلوب رشيق وممتع... القاص والكاتب الصحافي في الزميلة"الرياض"فهد السلمان، واحد من هؤلاء. هجر منذ زمن طويل كتابة القصة، إذ وجد في المقال الصحافي، ممكنات تعبيرية أعمق ربما وأكثر يسراً في الوصول إلى القارئ، هذا القارئ الذي هو حلم كل أديب وكل كاتب صحافي، من دون شك أن السلمان يتمتع بمقروئية واسعة، وبالتالي بمحبة وصداقة الكثير من قرائه... هنا حوار معه حول هموم وقضايا أدبية واجتماعية عدة. بداية وعلى رغم تجربتك الطويلة في الكتابة في الشأن العام، إلا أنك تحجم عن المشاركة في فاعليات المشهد الثقافي، وتكتفي بالكتابة الصحافية... لماذا؟ - هذه المدينة لا تحتفي بالثقافة,.. هي تمارسها حين تفعل كنوع من الترف، والذين يحضرون إلى قاعة المركز الثقافي أو أي منبر آخر... يحضرون لكي يراهم الأمير أو المسؤول الكبير الذي يرعى المناسبة!... لكنهم أبداً لا يأتون من أجل عيون الثقافة... لأنها آخر عيون يُمكن أن يُحتفى بها هنا!. أما إذا كنت تشير إلى ما يحدث من حين إلى آخر في النادي الأدبي، فأنا ما زلت أتحفظ على برنامج النادي وطريقة تعاطيه للشأن الثقافي والأدبي. وقد قلت هذا مراراً لأعضاء مجلس الإدارة مباشرة وفي مقابلات صحافية. لذلك وحتى لا أكون شريكاً في تأسيس مشهد ضبابي ومُختنق ومُزيّف، أنا أكتفي بهذه المقالات الخجلى. فهد السلمان الهادئ أحياناً والمتفجر حيناً... ما الذي يثيره؟ أنا هادئ جداً يا خضير، وهدوئي هو الذي أهداني جلطة نصف مباغتة في القلب، لأنني أحاول أن أكون من كاظمي الغيظ... على رغم كل ما تضج به هذه الحياة من عناصر الاستفزاز... التي تكفي لأن تقتلك في اليوم ألف مرة!، ألا يكفي أن نعيش زمن شارون؟... ألا يكفي أن نرى كل يوم كيف تتجسد الذلة والمهانة في أمة، أقنعتنا دفاتر المدارس أنها أعز أمم الأرض، فإذا بها تحتسي منذ أن وعيناها الهزائم والنكبات والنكسات، ولم نعرف لها نصراً خارج كتب التاريخ!... إن ما يثيرني أنني مواطن عربي تمت برمجته ثقافياً، من خلال معلقات الفخر وقصائد الانتصارات وأغاني التحدي على صورة المستقبل الماضي، كما يقول المفكر الجابري، لتتركه بعدئذ يصطدم بواقعه المأزوم... أعزلاً إلا من رحمة الله. هل زادت الكتابة رصيدك من الأصدقاء؟ وما العداء الذي جلبته لك؟ - الحمد لله... أنا أعتز بصداقاتي، وليست لي أي عداوات مع أحد سوى أولئك الذين يريدون أن يكونوا أوصياء على قلمي في شكل أو آخر!. سعيد عقل والمواطن العربي دائماً ما تكتب عن حائل وهمومها وتطلعاتها... هل تجد كتابتك أي صدى؟ - أحياناً أشعر أننا نرتكب حماقة العبث... ومع هذا علينا ألا نيأس فلدينا رسالة تجاه مجتمعنا، علينا أن نتمها مهما كان حجم الإحباط!. كتبتَ مرة مقالاً تطرقت فيه إلى سعيد عقل مستخدماً لغة نقدية حادة... ما السبب؟ - نعم فعلت، على رغم أنني أحترم سعيد عقل كشاعر كبير... لكنه أسقط في يدي حينما التقاه محمد رضا نصرالله في برنامجه الشهير هذا هو و كانت تبثه الmbc حينها، و في الوقت نفسه كانت قناة الجزيرة أعادت إلى الأذهان ذكريات مانشيتاته الصحافية إبان حرب لبنان، التي كانت للأسف ترحب بشارون واحتلاله لبيروت... فضلاً عن تنكّفه للعرب والعروبة وامتداحه للفينيقية، التي يُريد أن يُخرج بها لبنان عن محيطه وثقافته العربية، على رغم أنه كان يقول بل قال أجمل قصائده في اللغة العربية، وكان يُحاور نصرالله بتلك اللغة التي كان يرفضها ... كان هذا أو حتى بعضه كافياً لاستثارة مشاعري كمواطن عربي ضد عقل وآرائه. لأن إعجابي بأي مبدع لا يدفعني إلى تصنيمه، إذ يحجب رؤيتي عمّا أعتقد أنه خطأ. هذا كل ما في الأمر، لكنه لا يقلل من شأن رجل بحجم إبداع سعيد عقل. فهد السلمان كاتب ومبدع في فنون السرد، هل سرقت الصحافة هذا المبدع؟ - بدأتُ فعلاً نشاطي الثقافي مع القصة، على رغم أنني لم أخطط أو حتى أحلم بأن أكون قاصاً... كل ما في الأمر أنني كنت أفتش عن صيغة تعبير ما، في ذلك الوقت من مستهل الثمانينات. كان الفضاء حينها يعج بالقصة القصيرة كجنس أدبي حضاري، قادر على أن يقول كل ما يُريده المثقف، من دون الدخول في مشاحنات مع حراس التقاليد. كان هذا في غمرة الانبجاس الحداثي، كنتُ جزءاً من ذلك النسيج وقدّمتُ بعض محاولات قصصية لا يحق لي تقويمها، إلى أن وجدت نفسي وبدعوة كريمة من أستاذ الصحافة تركي السديري وهو الرجل الذي أكنّ له كل التقدير والاحترام، وعبر الكاتب يوسف الكويليت، واحداً من منسوبي جريدة الرياض. أتذكر أنني قلت حينها لأبي عبدالله: أنا مجرد قاص وليست لي تجربة صحافية، فأجابني:"أمامك الرياض الجريدة من"الترويسة"إلى الكاريكاتير... أكتب ما تشاء وفي ما تشاء". كان ذلك أضخم شرف يُقدّم لي في حياتي، وما زلتُ أحتفظ به وفاء لأستاذ المهنة أو"ملك الصحافة"كما أطلق عليه سمو ولي العهد. كيف ترى المشهد السردي الآن، محلياً وعربياً؟ - لستُ من هواة إطلاق الأحكام الجاهزة من موقع الأستاذية، ما زلتُ أقل من هذا، ودون هذا المستوى الذي يخولني إصدار حكم نهائي. لكن لدي تصور صغير، وهو أن المشهد السردي المحلي على مستوى القصة القصيرة هزيل وبائس باستثناء بعض الأعمال الإبداعية الحقيقية، التي تُعد على أصابع اليدين. أما في مجال الرواية وهذا شيء مباغت - فقد سجل الروائيون السعوديون في تقديري حضوراً باهراً ومميزاً، لا يستقيم كمنجز إبداعي مع حجم التجربة ومدتها الزمنية. لكنني أزعم أن عبد الرحمن منيف، سواء حُسب على الرواية المحلية أم لا، قد أسهم كروائي فذ ومختلف في إيقاد جذوة الإبداع الروائي لدى الكتاب المحليين في شكل مذهل، وهو ما يُفسّر تكرار إشكالية الغياب في الكثير من أعمالنا الروائية المحلية، محاكاة لدور"متعب الهذال"الشخصية الشهيرة في مدن الملح !! . أما في العالم العربي فالتجربة الإبداعية في مستويات السرد، تجربة ثرة وغنية جداً وتفوق بعض ما يُقدم لنا على أنه أدب عالمي. إلا أنني أتصور أننا لا نزال نعاني من إشكالية كبرى في مجال الترجمة الإبداعية، لأن معظم الترجمات إمّا ميكانيكية أو مجرد ترجمة لغوية صرفة، ما يُصادر الكثير من العمق الإبداعي لتلك النصوص المترجمة، وقد يحولها إلى مسخ مترهل وفاسد. لا أدري لكني أتمنى أن نتغلب على هذه المعضلة. محاضرة عن الحجامة هل ترى أن المؤسسات الثقافية خدمت المنطقة؟ ولماذا أنت عازف عن المشاركة فيها؟ لا. لا. كنت أتمنى لو اخترع اللغويون"لاء"كبيرة، تختصر تلك المسافة التي نقولها رفضاً لوليمة أو نقولها رفضاً لكفر !!. لم تفلح حتى الآن المؤسسات الثقافية المحلية للأسف الكبير، في عمل أيّ شيء يُمكن أن يُسجّل لها. لقد ظلت هذه المؤسسات مجرد إدارات بيروقراطية، يُدار فيها الأدب بالطريقة نفسها في إدارة شؤون المياه أو مكافحة التسول أو أي شيء آخر. يكفي أن تعلم، وأنت تعلم بالتأكيد، أن واحداً من أهمّ إنجازاتها كان محاضرة عن الحجامة!!. أعتقد أنهم يخدعون أنفسهم بدور ثقافي موهوم، قبل أن يخدعوا من سواهم. لذلك أنا في حل من الانتساب إليها، ما لم تتحول إلى مؤسسات لاستنبات الوعي الثقافي الحقيقي، وليس للاستعراض أو الإدعاء الثقافي. كتبت مقالاً عنونته ب"طيور الظلام"فمن هم؟ - لستُ من هواة الألغاز والأحاجي. المقال كان واضحاً بما فيه الكفاية، وقد أرسلته منذ زمن إلى دورية النادي الأدبي في حائل رؤى، بناء على إلحاحهم عليّ في طلب المشاركة في الكتابة في دوريتهم، وقد كتبته من باب التحدي لأنه يتناول شريحة من الأدباء الذين استولدهم النادي، بسياساته العجيبة كما لو أنهم توالدوا عبر الأنابيب،أو بانقسام الخلية. أردتُ أن أراهنهم على نشره، لكنهم وهذا اعتراف مجاني - كانوا شجعاناً في هذا الجانب فنشروه على رغم أنه يمسهم في العظم. أنا أحترم فيهم هذه الشجاعة بصرف النظر عن أيّ شيء آخر!. المبدعون والمثقفون في منطقة حائل كيف تُقوم تجاربهم ؟ - جار الله الحميد أصدر عام 1979"أحزان عشبة برية"، أعتقد أن هذا العمل خرافي بكل المقاييس، وهنا أريد أن أحيي مطر عبدالرحمن، ذلك الذي بقي أثره في ذاكرتنا الثقافية وسيظل. بالمناسبة هنالك شابة جزائرية حصلت على درجة الدكتوراه في الأدب من خلال أطروحتها عن أحزان عشبة برية. لدينا أسماء مهمة جداً: سعود الجراد كقاص، وعلي الضمادي كفنان تشكيلي خصوصاً في النحاسيات، والراحل جارالله الجباري كشاعر، وعبدالكريم النمر كفنان تراثي، وسلامة العبدالله كمغني. كذلك أنا سعيد بتجارب بعض الشباب: شتيوي عزام وسعود البلوي وغيرهم، وليعذرني ممن لم أطّلع على تجربته. فهد العريفي ... قيم النبل والفروسية فهد العريفي رحمه الله، لا يعني لي وحدي إنما يعني لي وللكثيرين غيري ولحائل كلها من الجبل إلى الجبل ومن الرمل إلى الحرّة، بل يعني لهذا الوطن ولهذا الجيل كله، وربما لأجيال قادمة ستتعرف لاحقاً على رجل اسمه فهد العريفي... يعني الكثير من قيم النبل والفروسية. يعني الشرف النقي والضمير الحي، يعني مدرسة الأخلاق التي تستطيع أن تقدم أجمل الدروس العملية للآخرين في هذا الباب. يعني تلك القيم التي نقرؤها في القصائد، ونعتقد أنها شيء من"اليوتوبيا"، التي لا مكان لها خارج حدود جمهورية أفلاطون. وحده فهد العريفي جعلها جزءًا من واقعات حياته اليومية. فهد العريفي يا صديقي رجل من طراز نادر. لا يكفي أن أقول إنه نسيج وحده، هذا لا يكفي لتمييزه. بالمناسبة لعل أصعب شيء هو تمييز المُميّز!!. لكني أستطيع أن أقول: إن هذا الرجل الذي أتشرف بأبوته الروحية لي، أنه ذلك الفلك الآدمي الذي تدور في مجراته السحيقة أفخم الفضائل. لا ليس كذلك، بل هو رجل في أمة، وأمة في رجل. يكفي أن تعلم أن أياً من تلاميذه لم يستطع بعد أن يرثيه بحق؟!. تعرف لماذا ؟؟ لأن فن الرثاء يعني أن تكون لديك جغرافيا محددة، واضحة الحدود عن المرثي. في حين أن فهد العريفي كقيمة إنسانية أكبر من أن يكون له حدود معينة. هو دائماً خارج النص المقيد والكلاسيكي، لأنه مختلف!!. أريد أن أقول ما يجب أن يُقال في رجل مثله، لكن مفرداتي لا تستطيع أن تحتمل ثقله الضخم كقيمة استثنائية، لذلك أنا خجلٌ في حضرة هيبته، التي تُجبرني على تعديل جلستي لحظة الكتابة عن غيابه كما لو كان حاضراً !!.