ليس أجدر بالوقوف إلى جانب الداعية السعودي المتألق عايض القرني "في محنته اليوم من الأنثى السعودية التي نالته سهام المجتمع ونصاله إثر خرقه إجماع علماء في بلاده نحو قضيتي قيادة السيارة وكشف الوجه". هكذا بدأت باحثة سعودية تعليقها على إعلان القرني توقفه أخيراً، بسبب"جفوة المجتمع بمختلف توجهاته له"على حد وصف قصيدة مؤثرة فاجأ بها محبيه من الجنسين بعد ركود نشاطه الإعلامي والوعظي أثر عاصفة فيلم"هيفاء المنصور"، إذ لم يظهر بعده سوى في درس أسبوعي لأحد مساجد الرياض، وحلقة يومية على التلفزيون السعودي في رمضان الماضي. وتقول باحثة سعودية فضلت عدم كشف اسمها ل"الحياة"إن"مشكلات القرني في الساحة الإعلامية السعودية لم تتجاوز المرأة. في المرة الأولى حاصره الرأي الديني بعد اعتباره منع قيادة المرأة السيارة ليس من الثوابت الدينية التي لا تتغير، إذ لم ينزل منعها في سورة الأنفال ولا التوبة. ومرة أخرى عندما نقل رأي مجموعة عريضة من علماء الأمة الإسلامية ممن يرون تغطية المرأة وجهها غير داخل في إطار الحجاب الواجب شرعاً". وكان القول الأخير، دفع جمعاً من الدعاة السعوديين إلى لوم القرني والتثريب عليه، على رغم أنه حكى قولاً مشهوراً في المذاهب الأربعة، الأمر الذي حمله على الرضوخ للضغوط والإعلان عن تراجعه عما قال، إذعاناً لرأي إخوانه الدعاة ونصح كبار العلماء. لكن ذلك لم يشفع للداعية ذي الجماهيرية الواسعة لدى"حساده من بعض الدعاة المحيطين به وغيرهم ممن امتلأت قلوبهم حقداً عليه، بسبب ما منحه الله من قبول لدى العامة والخاصة"، على حد قول أحد أساتذته في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. أما أستاذه الشهير الدكتور محمد الفاضل، فإنه يجزم بأن تلميذه"القرني لن تستغني عنه الساحة كما لن يستغني هو عنها، وكل محبيه لا يؤيدونه في هذا القرار، وعلماء الأمة تبلغ أعمارهم التسعين ولا يزدادون مع ذلك إلا نضجاً ووهجاً، ولذلك فإنني أجزم أن القرني سيعود بعد أسبوع أو فترة تأمل قصيرة، يدفعه إلى ذلك علمه، وثقته واطمئنانه بمكانته لدى العامة والخاصة". "الكتب"بين المضمون و"الحظ" وكان القرني خاض حرباً إعلامية تراوحت بين الإثبات والتكذيب، مع المخرجة السعودية هيفاء المنصور، انتهت بخضوعه للضغوط التي بدت واضحة في بيان صادر عنه تناقلته وسائل الإعلام قبل أشهر. ومع أنه قبل أن يصدر البيان اتهمها بأنها"خدعته"إلا أنها هي الأخرى، وصحافيون سعوديون رأوا في تراجع القرني عما أكده قدحاً في صدقيته كعالم شرعي، لم يزد على أن كشف الخلاف بين العلماء في وجوب تغطية الوجه! ويذكر أن القرني بعد أفول وهج"الكاسيت"الذي أغرق به وزملاؤه الدعاة الساحة السعودية، اتجه إلى التأليف وأمطر المكتبة السعودية بكتب يختلف النقاد في قيمة بعضها أو كلها، إلا أنهم يتفقون على لقياها صدى جماهيرياً واسعاً، انعكس على مبيعاتها فسجلت أرقاماً قياسية. ولكن هل كثرة مبيعات كتاب ما تعود بالضرورة إلى جودة مضمونه. الكثيرون يرون الاثنين متلازمين غالباً، بيد أن عدداً ممن سألتهم"الحياة"وقرأوا كتب القرني فضلوا إعادة ما تلقته من القبول إلى"توفيق الله للداعية، ربما لإخلاصه النية وإلا فإن كتبه في مضامينها لم تأت بمعجزة". النشاط بعد الحظر بينما رد آخرون بأن ذلك"لا يصح على كتب القرني وحدها، وإنما على كل المؤلفات في الماضي والحاضر، إذ نجد كتباً تفوَق صداها جماهيرياً على أخرى لا تقل عنها شأناً". إلا أن المتابع للداعية السعودي القرني الذي حاول التكيف بمهارة مع تضاريس المرحلة، يجده استفاد كثيراً من نجوميته قبل بدء التأليف. وكانت مرحلة حظر نشاطه الثقافي التي دامت عشر سنين وانتهت في 2000 بدلاً من أن تؤثر في جماهيريته ضاعفتها! ونقل شهود عيان لأول محاضرة له بعد الحظر في الحرس الوطني شرق العاصمة الرياض، أن حشوداً تجاوزت 10 آلاف شخص، حسب التقديرات آنذاك، أتت مريدة له. لم يتوقف القرني عند تلطيف الأجواء بعد كشف الحظر عن نشاطه الإعلامي بالتصريحات التي أفصح فيها عن تغير بعض أفكاره إلى واقع أكثر ملاءمة مع التوجهات داخل المجتمع السعودي وحسب، بل تجاوز ذلك إلى لعب دور مباشر في الحراك السياسي والديني الذي شهد كثافة في السعودية، عقب أحداث 11 أيلول سبتمبر ولم يتوقف، حتى انتقلت الأحداث الإرهابية إلى الساحة المحلية، فكان الشخصية التي وقع اختيار الدولة عليها لمحاورة أقطاب الفكر التكفيري، قبل نحو من عامٍ ونصف. وكانت تلك فترة انتقالية مهمة في حياته، قيل إنها زادته قرباً من السلطة الرسمية، ما دفعت بعض من منافسيه إلى الضغينة ضده، كما يتردد بين بعض الأوساط. وقبل ذلك كان القرني نشط في الحلقة الأولى والثانية من الحوار الفكري الذي دشنه ولي العهد السعودي قبل عامين، وأسهم برؤى وصفت بالتنويرية. لكنه لا يزال مصراً على أنه كما يدعو إلى التحاور والتقارب بين المذاهب الإسلامية تحت ظلال الوحدة الوطنية، يؤكد رفضه للنهج العلماني، الذي"يدعو الأمة لترك ثوابتها وعقيدتها وقرآنها ومنهجها"، على حد تعبيره. وقال في إحدى ندواته:"كما نرفض الإرهابي نرفض العلماني والمنحرف الذي يقلل من شأن المسجد". هل يعود القرني؟ واصل القرني مواكبته للحضور الديني المسيس على الساحة المحلية، وتنقل بين الخيام الانتخابية، مؤكداً أن الإسلام ليس ضد الديموقراطية، وشجع على المشاركة الشعبية حتى وصف هو ودعاة آخرون بلعب دور"دعائي"في الأعراس الانتخابية التي شهدتها الرياض في مطلع العام الهجري الحالي. وأعداء القرني كثيراً ما فسروا مبادراته أو مواقفه الايجابية بأنها محاولة"للتكفير"عن أخطاء الماضي التي يجحدها أو"التزلف"إلى السلطة الرسمية بحثاً عن منصب مرموق، وفي ناحية الإكثار من التأليف اعتبروه"يقتات على بضاعة مزجاة، أو يسرق أفكار كتاب آخرين"... ونحو ذلك من بعض التهم التي حفلت قصيدته صراحة باستيائه منها. إلا أن ذلك لم يدفعه إلى العدول عن خطه مع نجاح بعض منهم في استدراجه لمعركة صحافية كانت الوحيدة التي خاضها، فيما تولى محبوه خوض معارك أخرى أثيرت في البلاد، بالنيابة عنه. ويظل السؤال معلقاً: هل يعود القرني إلى الساحة أم يبقى بعيداً منها، ولكن إلى متى؟