في صباح كل يوم تنقل لنا الصحف أخبار بعض الأسر التي تعاني الفقر والجوع، تعيش في بيوت خربة أو داخل سيارة، لا تجد ما تستر به أفرادها أو تحميهم من حر حارق أو برد قارس. وعادة ما تتكون تلك الأسر من عدد كبير من الأبناء إضافة إلى الأب والأم، إن لم يكن بينهم أم الأب أو أخته. من دون مبالغة، أصيب بعض البشر بما يمكن أن نطلق عليه إدمان الإنجاب، فتراهم يتحينون الفرصة لإنجاب أكبر عدد ممكن من الأبناء، ولذا لا نستغرب أن نجد رجلا في عمر الأربعين ويعول عشرة أطفال، وهو يعمل بوظيفة لا يتجاوز راتبها ثلاثة آلاف ريال، ويسكن في بيت مستأجر، وقد لا يجد وسيلة للتنقل. ومن أغرب الحالات التي وقفت عليها، رجال قرية تبعد من المدينةالمنورة بضعة كيلومترات، فبين أهل تلك القرية تنافس محموم في الزواج من أكثر من زوجة وإنجاب أكبر عدد من الأبناء، فقد تكون لديهم عادة موروثة أن تعدد الزوجات وكثرة الأبناء يزيدان الرجل شرفاً وعزة، فتجده يفاخر بعدد زوجاته وأبنائه، والعجيب أن غالبية سكان القرية يعيشون فقراً مدقعاً، لدرجة أن إدارة المدرسة في القرية كونت صندوقاً لتقديم الإفطار للطلاب الذين يحضرون إلى المدرسة من دون أن يتناولوا شيئاً، بل وحتى من دون أن يحصلوا على مال لشراء وجبة إفطار من مقصف المدرسة. وعندما هممت بمناقشة مدير المدرسة طلب مني عدم إضاعة الوقت، لأن ما يحصل هو إدمان جارف لا يمكن إيقافه، فالجميع لديهم قناعة تامة بهذه الممارسة، فهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتفاخروا به. شعرت بحزن شديد لحال الكثير من الأطفال من حيث الملبس وسوء التغذية، والجهد الذي يبذلونه في رعي الأغنام بعد انتهاء اليوم الدراسي، وعلى كل حال فالدارسون أوفر حظاً ممن لم يلتحق بها أصلاً، لحاجة العائلة له في العمل لكسب لقمة العيش. ومن طريف ما عايشته حال حارس إحدى المدارس التي عملت فيها مرشداً طلابياً، فهو كان يعيش وزوجته وتسعة من أبنائه في سكن المدرسة المكون من غرفتين وصالة، وكان يخبرنا ووجهه يتهلل سروراً أن زوجته حامل، ثم ما لبث أن زف لنا خبر إدخال زوجته إلى المستشفى للولادة، وبعدها يقابلنا كمن ملك الدنيا. وفي كل عام نعيش هذه المسرحية التي استمرت سنوات، تركت المدرسة بعدها، وما زلت أظن أن فصول المسرحية ما زالت تعاد حتى يومنا هذا. نعم، أدمن بعض الناس الإنجاب من دون مراعاة لعامل الزمان وظروف الحياة والتغيرات المصاحبة لها، ففي وقت مضى، كان الهدف من كثرة إنجاب الأبناء هو مساعدة الأسرة في العمل لكسب العيش، وكان الطفل يُعتمد عليه وهو في سن العاشرة من العمر، ولم تكن متطلبات الأبناء كثيرة وكبيرة وذات أولوية، في ذلك الوقت كان للقرية أو القبيلة الدور الأساسي في الضبط الاجتماعي وتيسير السلوك، فهي التي تحدد ماذا يجب أن يفعل الفرد وماذا يجب أن يتجنب. في ذلك الزمن، عاش جيلنا السابق في فقر وكساد، ولم تظهر بينهم الجريمة بأنواعها كافة، مثلما هي الآن، فالحال مختلفة جداً، فولادة الطفل في الأسرة تحتاج إلى موازنة خاصة للتعليم والترفيه والغذاء والملبس، وكل واحد منها يكلف الكثير، هذا في حال كانت الأسرة حريصة على أن تربي أبناءها أحسن تربية، وتجعلهم يعيشون حياة سعيدة كريمة. ومن ناحية أخرى، فإن الانفتاح الثقافي بأشكاله وصوره كافة أصبح يشكل عقبة أمام تحقيق التربية السوية، فلا يمكن إلا لمن وفقه الله أن يجنب أبناءه مشاهد السفور والانحلال و"ستار أكاديمي"!، وأصبح لزاماً على رب الأسرة في وقتنا الحاضر أن يزن الأمور بدقة، ويعرف إمكاناته المادية وقدراته على التربية السوية، وبناء عليه يعزم على إنجاب أطفال بحسب قدرته، فليست القضية أن تنجب، بل المهم أن تربي، والتربية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها جهاد. إن قضية إدمان الإنجاب تحتاج إلى وقفات ودرس وبحث، كما أنها في حاجة إلى توعية جماهيرية من خلال وسائل الإعلام المختلفة، والأهم من ذلك اخذ آراء العلماء والفقهاء وأهل الاختصاص، لإيضاح الحقائق وتصويب بعض المعتقدات الخاطئة لدى المجتمع. وأخيراً، أعتقد أنه إذا لم نناقش هذه القضية في هذا الوقت، فإننا سنواجه طوفاً بشرياً يأكل الأخضر واليابس، وقد يزداد الفقر وتنتشر الجريمة والرذيلة. وبالتأكيد كل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى. الرياض - عبدالرحمن الصبيحي خبير طفولة - اللجنة الوطنية للطفولة