لطالما سادت فكرة أن الاسكندينافيين هم الأكثر إقداماً على الانتحار، ولطالما تردد على ألسنة الناس في مختلف المجتمعات أن هؤلاء يقدمون على قتل أنفسهم بسبب «الضجر والرخاء» في تلك البلدان الغنية بمواردها البشرية والاقتصادية والطبيعية، إذ أن «كل شيء مؤمن لهم، حتى في حالة البطالة»، وأن الاكتئاب سببه أنهم «لا يجدون ما يشغلهم ولا يحملون هموماً تعطي حياتهم معنى». فما مدى صحة ذلك؟ وهل ما زالت نسب الانتحار عالية في تلك البقعة من العالم؟ ولماذا؟ تفيد دراسات وإحصاءات سويدية حول حوادث الانتحار صدرت أخيراً، أن أعداد المنتحرين سنوياً يفوق بثلاث مرات أعداد الذين يقضون في حوادث سير. فيما تؤكد إحصاءات العام 2010 أن النسبة العليا من المنتحرين تدخل ضمن الفئة العمرية 15 – 44 سنة، وأن عدد الرجال المنتحرين يفوق كثيراً عدد النساء. هذه الأرقام دقت ناقوس الخطر بين المتخصصين، على رغم أن الانتحار ظاهرة ليست غريبة عن البلدان الاسكندنافية، خصوصاً السويد ذات الشتاء القاسي، إذ تتدنّى درجة الحرارة في بعض المناطق، لا سيما الشمالية، إلى 40 تحت الصفر، فيما يهيمن الظلام على الجزء الأكبر من ساعات اليوم، حتى أن شروق الشمس شتاءً يشكّل مادة دسمة تتناولها الصحف السويدية باهتمام ويقبل الناس على قراءتها بشوق ولهفة. ووفقاً للدارسة، فإن 1500 شخص ينجحون في محاولتهم لإنهاء حياتهم سنوياً، ويعاني 70 إلى 90 في المئة منهم مشاكل نفسية. وتظهر الأرقام أن شخصاً واحداً يقدم على الانتحار (بصرف النظر عن نجاحه في ذلك) كل ست ساعات، ما يعني انتحار أربعة أشخاص في اليوم الواحد... فما الذي يدفعهم إلى ذلك؟ الوحدة يعزو المسؤول في إحدى بلديات العاصمة السويدية استوكهولم، نضال رحمن، الظاهرة إلى «العزلة» و «الوحدة» ونمط الحياة المبنية نواتها على «الفردية» التي على رغم أهميتها في «ماكينة» العالم المتقدّم وارتباطها بالتحرر من قيود «الجماعة»، قد تبلغ أحياناً مبلغ «الوحدة المتوحشة»، والإحساس بلا جدوى الحياة في ظل عزلة مطبقة، مع ما يولده ذلك من اكتئاب قد يدفع بالشخص إلى الإقدام على الانتحار، مشيراً إلى أن في السويد أعلى معدلات للانتحار أوروبياً. وتقدّر حالات الانتحار في البلدان الأوروبية سنوياً ب150 ألف حالة. ويصعب في السويد، البلد المعروف بانفتاحه واحتضانه للتعدد الثقافي، العثور على إحصاءات مبنية على أساس العرق أو الدين أو ما شاكل، ذلك أن أي إحصاء صادر عن أي جهة، يأخذ في الاعتبار المواطنين والمقيمين في السويد، ما يجعل من الصعب معرفة عدد الأشخاص المنتحرين من أصول عربية أو شرق أوسطية. المراهقون والعائلة تشكل نسبة المنتحرين لدى المراهقين والشباب النسبة العليا، إذ تشير الأرقام الرسمية إلى أن 25 في المئة من حالات الوفاة ضمن الفئة العمرية 15 – 44 سنة، سببها الانتحار. والمنتحرون من الفئة العمرية 15 – 24 سنة يشكلون النسبة العليا، بحسب إحصاءات مكتب الإحصاء المركزي في السويد ومعهد كارولينسكا. عن ذلك تقول البروفيسورة بيرغيتا فلوديروس، الباحثة في معهد كارولينسكا، إن «الشباب في حاجة إلى تمضية المزيد من الوقت مع عائلاتهم أو مع من يستطيعون الاعتماد عليهم، سواء في البيت أو المدرسة أو المجتمع». ويبدو أن التوتر الذي يخلّفه يوم عمل طويل، لا سيما لدى الوالدين، يجعل الساعات المحدودة التي يمضونها مع الأبناء «غير نوعية». وسجلت إحصاءات عام 2010، تصاعداً في عدد المنتحرين من الرجال من مختلف الفئات العمرية، بالمقارنة مع النساء. إذ سجل الرجال 1031 حالة انتحار، فيما سجّلت 411 حالة انتحار أقدمت عليها نساء. ويعتبر بعض علماء الاجتماع أن النساء بطبيعتهن أكثر انفتاحاً وحرية في التعامل مع مشاعرهن من الرجال، وأكثر إقبالاً على تفريغ ما يدور في دواخلهن، إن بالتحدث إلى الأصدقاء أو أحد أفراد العائلة المقربين، ما يعني أنهن يُخرجن المشاعر السلبية التي قد يؤدي تراكمها إلى الإقدام على عمل من قبيل الانتحار أو إيذاء الذات. ولا ينسى رحمن أن يلفت إلى أن عبارة «أفضل صديقة» شائعة لدى النساء في السويد، فيما يندر سماع رجل يتحدث عن «أفضل صديق».