الحديث عن التوبة في رمضان، كالحديث فيه عن الصيام والقيام، فرمضان هو شهر القيام والصيام، وهو شهر التوبة والغفران، وحقيقة التوبة مما لا يتعلق به حق لآدمي: إقلاع عن الذنب، وندم على فعله، وعزم صادق على عدم العَود، وما سوى ذلك فمن تزيّد المتنطعين، وأوهام الجاهلين، بل قال بعض أهل العلم :"يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوع الذنب، فإنه يستلزم الإقلاع عنه والعزمَ على عدم العَود، فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه"، ويؤيد هذا حديث:"الندم توبة"أخرجه ابن ماجه وصححه الحاكم وحسّنه ابن حجر في فتح الباري 12/479. على أن التوبة بهذه الصورة البسيطة غير المعقدة تحمِلُ معاني عظيمة من معاني العبودية لله، هي التذللُ لله تعالى، والخوفُ من عقابه، والاعترافُ له بالتقصير والضعفِ. وليس من شروط التوبة ألاّ يعودَ إلى الذنب أبداً، وعودة المرء إلى الذنب بعد حينٍ من توبته منه لا تعارض بالضرورة صدقَ ندمه، ولا صدقَ عزمه على عدم العَود، فإن الإنسان قد يعتريه ضعف فتنهزم إرادته فيقع في الذنب مرة أخرى، فيحتاج معه إلى توبة أخرى يصحح بها مساره، ويجدد بها ندمَه وعزمَه على عدم العَود. ويشهد لهذا ما جاء في صحيح البخاري رقم الحديث 7505 عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن عبداً أصاب ذنباً، فقال: رب أذنبتُ فاغفر لي. فقال ربه: عَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنبَ ويأخذُ به، غفرتُ لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنباً، فقال: رب أصبت آخر فاغفره. فقال: علِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنبَ ويأخذُ به، غفرتُ لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً فقال: رب أصبتُ آخر فاغفره لي. فقال: علِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرتُ لعبدي ثلاثاً فليعمل ما شاء"ومعناه: ما دام أنه كلّما أذنب تاب توبة صادقة فإني أغفر له ذنبه ولو تكرر منه كثيراً. إذاً، هذا في حق من صحَّ منه الندمُ، وصدقَ في عزمه على عدم العَود، والله أعلم بصدقه في ذلك، وهذا بخلاف من يتظاهر بالتوبة ويتصنّع الندم، فإنه لا يكاد يفارق ذنبه، وإذا فارقه فهو ساعٍ له بالتسبب بأسبابه فور انتهائه منه، مشغول الذهن به، يسترجع صورته وفصوله ليستمتع بذكرياته، فهذا - أصلاً - لم يصح منه ندم ولا عزيمةٌ على الإقلاع وعدمِ العَود. وليس من شروط التوبة من الذنب ألا يصر على غيره، بل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره مما ليس من نوعه، كمن تاب من قتل النفس وهو مصرٌ على شرب الخمر، وأما مع الإصرار على ذنب آخر من نوعه فلا تصح التوبة، كمن تاب من تناول الحشيشة وهو مصر على شرب الخمر يُنظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/285. وليس من شروط التوبة أن يتوبَ من الذنب وهو قادر عليه، بل توبته مع عجزه عن فعله صحيحةٌ، فإن أركان التوبة متحققة فيه، إذ نيته في توبته أنه لو قدر على مواقعة الذنب لما فعله. ولو كانت نيته أنه لو قدر عليه لباشرَهُ فتوبته منه حينئذٍ كاذبة، وعليه أن يتوبَ من هذا الذنب بالإقلاع عن هذا التمني، وعن الحزن على فوته يُنظر: مدارج السالكين 1/296. وليس من شروط التوبة أن يكاشف المذنب أحداً بذنوبه، فيفضح نفسه وقد ستر الله عليه، فمن كشف ستر ربه عليه فقد تنكّر لنعمته، فحذار أن يكشف أحدٌ لأحد فضائح نفسه ويُطلعَه على سابق سيرته، ظناً منه أن ذلك من شروط التوبة، أو علامة على صدقها، فلم يجئ في كتاب ولا في سنة أن من دلائل صدق التائب أن يكاشف أحداً بذنبه ويطلعه على فضائحه! وأخيراً، فليست التوبة وظيفة الفساق والفجَّار، فلا تقع إلا منهم ولا يتوجّه الأمر بها إلا إليهم، ولكنها وظيفة المؤمنين جميعاً، فليس أحدٌ مستغنياً عن التوبة، فالله يقول: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. ولا بد لكل مسلم من توبة عامّة مما يعلم من ذنوبه، ومما لا يعلم، ولذا جاء في الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم:"اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني"، وصح في الدعاء المأثور أيضاً:"اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلمُ". المحاضر في كلية الشريعة بجامعة الإمام [email protected]