قدمت في المقالة السابقة كلاما تأسيسيا لفكرة «توبة بلا شروط»، لا يستقيم النظر في هذا الجزء إلا بالعود إليه. وكما أسلفت جاءت النصوص من الوحيين تؤكد أن التوبة باب مفتوح ورحمة واسعة، وهي حالة بين العبد وربه، ومع الله فإن العطاء لا ينتهي، لكن العقل الفقهي تدخل لوضع لوائح تنفيذية للتوبة، فقال النووي في كتابه رياض الصالحين: «قال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط، أحدها: أن يقلع عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته»، هذا كلام النووي وسأعود لاستكمال الشرط الرابع عنده. ونحن أمام مناقشة موضوعية لهذه الشروط: أولاً: الإقلاع عن المعصية، فهل يتصور أن التائب مقيم على معصيته؟ فهما حالتان إما توبة وإما معصية، وقد جاء التائبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستبن –وحاشاه- هل هم مقلعون أم مقيمون على المعصية؟ فما لا يأتي بالعقل لا يأتي بالشرع. أخرج البخاري عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله «أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»، فقال الرجل يا رسول الله: ألي هذه؟ قال صلى الله عليه وسلم «لجميع أمتي كلهم»، والأحاديث التي ساقها النووي نفسه في هذا الباب وعددها 24 حديثاً كلها في هذا المعنى. ثانياً: أن يندم على فعلها. جاء في الحديث «الندم توبة» رواه أحمد في المسند. وصححه أحمد شاكر وغير، إن دقة لفظ الحديث تجعل الندم هو التوبة ذاتها وليس شرطاً لقبولها، وهو ما جعل الفقيه ابن تيمية يقول: معناه صحيح. كما لا يتصور توبة بلا ندم إلا في التوبة الشكلية وهي ما لا تتناولها النصوص، والتي يلجأ إليها المذنبون لتنفيذ أغراضهم، أو يلجأ إليها المتوبون من الوعاظ! ثالثاً: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً، سأحاكم هذا الشرط إلى ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول «إن عبداً أصاب ذنباً فقال: يا رب إني أذنبت ذنباً فاغفره لي. فقال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له، ثم مكث ماشاء الله، ثم أصاب ذنباً آخر، وربما قال ثم أذنب ذنباً آخر فقال: يا رب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي: قال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له، ثم مكث ماشاء الله، ثم أصاب ذنباً آخر، وربما قال ثم أذنب ذنباً آخر، فقال: يا رب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي: قال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فقال غفرت لعبدي فليعمل مايشاء». من يفهم الأحوال يدري أن نفسية التائب الصادق نادمة وليس فيها إلا التوبة. بل هو في تلك الحالة كاره للذنب فجاءت التوبة المفتوحة والرحمة الواسعة كي لا تتركه ضحية ذنبه وحتى لا يكره نفسه بوصفها مذنبة خاطئة، هذه البعد واضح من فكرة التوبة. فيما هذه الشروط تشكل علاقة بينه وبين المعصية وتذكره بها، وقد وقفت على كتيب عن التوبة ووجدت بداخله بطاقة فيها شروط التوبة وأمام كل شرط خانة يؤشر عليها القارئ هل حقق هذا الشرط أم لا! ثم يقول النووي: «وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عقوه، وإن كانت غيبة استحله منها..». غير أنه يجب أن نفرق بين الذنوب والمعاصي منه جهة وبين الحقوق من جهة أخرى. فالمعاصي في حق الله ورسوله كما هي طريقة القرآن «لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ»، «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وغير ذلك من الآيات. وبذلك تكون مظالم العباد في واجب التوبة لله، وفيها واجب أداء الحق للخلق. كما في الحديث «لَتُؤَدُّنَ إِلَى أَهْلهَا يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُقَاد لِلشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنْ الشَّاة الْقَرْنَاء»، فما كان واجباً لله ففيه التوبة بلا شروط، وما كان للخلق فكما قال الإمام النووي «ويحتاج كلامه إلى تفصيل». كل ما تقدم مفتاح للتفكير، وأرجو أن أتناوله بأوسع مما هنا. [email protected]