توصلت في مقالة سابقة "الحياة"في 3/1/2014 إلى استنتاج بأن النظام السوري لا يمكن إسقاطه بالتدخل العسكري الخارجي، كما لا يمكن إسقاطه داخلياً بالعنف المسلح، لكن يمكن تفكيكه. في حينه ركزت على تحليل طبيعة النظام السوري وكيفية بنائه بحيث صار عصياً على الإسقاط بالقوة، لكن لم أوضح الأسباب التي بنيت عليها استنتاجي المذكور. في هذه المقالة، وقبل أن نوضح كيف يمكن تفكيك النظام، لا بد من استعراض مكثف لأسباب عدم إمكانية إسقاطه بالقوة العسكرية، سواء الخارجية أم الداخلية. بداية ينبغي العلم أن الخيار العسكري الخارجي لم يكن مطروحاً أصلاً بصورة جدية، حتى في ذروة إخراجه المسرحي الأخير، بالعلاقة مع استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، الذي اتهم النظام به. السبب الجوهري في عدم جدية هذا الخيار هو عدم وجود مصلحة حقيقية للدول التي تستطيع تنفيذه به، أعني الولاياتالمتحدة وبعض الدول الغربية الأخرى، إضافة إلى تعقيدات الوضع السوري، الناجمة أساساً عن الأهمية الجيوسياسية الاستراتيجية لموقع سورية في المنطقة. فسورية ليس فيها نفط، يمكن اغتنامه، كما في العراق وليبيا، لتغطية النفقات العسكرية على الأقل، والنظام السوري لم يكن يوماً، رغم كل الديماغوجيا التي غلف نفسه بها، من قبيل معاداة المشاريع الأميركية والغربية في المنطقة، تحت شعار الممانعة ودعم المقاومة، معادياً لمصالحهم. بل كان جد متعاون مع أميركا وغيرها من الدول الغربية في"معركتها ضد الإرهاب، وهذا ما استفاض في الحديث عنه الرئيس بشار الأسد في مقابلته مع الإعلامي غسان بن جدو في تلفزيون"الميادين". كان النظام يقدّم نفسه دائماً كضامن للاستقرار في المنطقة، خصوصاً الاستقرار على الجبهة مع إسرائيل. وفي هذا المجال لا زالت في الذاكرة تصريحات رامي مخلوف في بداية الأزمة السورية حول الترابط القائم بين أمن سورية وأمن إسرائيل، والتي كشفت في حينه عن الدور السياسي الذي يلعبه السيد مخلوف، بحكم القرابة لا المنصب، في النظام السوري. ومن جملة الأسباب الأساسية لعدم إسقاط النظام عسكرياً من الخارج، عدم موافقة إسرائيل على ذلك. ففي حديث مع السفير البريطاني في دمشق، قال السفير انتم - السوريين- لا تأخذون في الحسبان دور إسرائيل في الصراع الجاري في سورية، فهي اللاعب الرئيس فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فهي التي لا تريد إسقاط النظام، بل تدمير سورية وجيشها، بحيث تخرج نهائياً من دائرة الصراع معها، بل من دائرة الفعل والتأثير في المنطقة لعقود من السنين. ومن أجل ذلك لعبت في الفترة الأخيرة، إلى جانب آخرين، دوراً رئيسياً في إعاقة عقد مؤتمر"جنيف2"للبحث عن مخرج سياسي محتمل من الأزمة الراهنة التي تعصف بسورية، من خلال الضغط على أميركا والدول الغربية، على أمل حصول مزيد من استنقاع الوضع السوري، خصوصاً بعد تورط"حزب الله"فيه. وهي اليوم أشد تمسكاً ببقاء النظام السوري من ذي قبل، وفق ما أفاد بذلك تقرير استخباري نُشر حديثاً، وذلك بالنظر إلى تزايد الحركات الجهادية المتطرفة في سورية، وعدم وجود بديل موثوق يحافظ على أمن الحدود معها. وينبغي أن لا ننسى أيضاً موقف كل من روسياوإيران الرافضتين لأي تدخل عسكري خارجي لإسقاط النظام السوري، وهو موقف جدي غير قابل للمساومة، كما أفصح مراراً مسؤولو البلدين. وأكثر من ذلك فإن إيران متورطة في الصراع العسكري المباشر على الأرض السورية وفق ما صرح أحد النواب الإيرانيين. أما في الأسباب الداخلية التي تحول دون إمكانية إسقاط النظام بقوة المواجهة العسكرية الداخلية معه، ففي المقدمة قوة النظام العسكرية، واستمرار تغذيتها من روسياوإيران، وعدم حصول انهيار اقتصادي كما كان يتوقع خصومه، ونجاحه في تحييد قسم مهم من الشعب السوري عن الانخراط في الصراع، وحتى في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة بدأ الناس يتذمرون، لأنها لم تقدم البديل الأفضل من النظام لإدارة هذه المناطق. يضاف إلى هذه الأسباب سبب جوهري آخر هو عدم قدرة المعارضة المسلحة على التوحد وإدارة عملياتها العسكرية بصورة مركزية تستند إلى إستراتيجية وتكتيك عسكريين محددين بصورة ملائمة. ولا يخفى أيضاً الأثر السلبي في قوة المعارضة المسلحة في التنافس والصراع بين فصائلها المختلفة، الأمر الذي كان في صلب هزائمها المتكررة، خصوصاً، في ريف دمشق وريف حلب. هناك أسباب كثيرة أخرى، خارجية وداخلية تحول دون إمكانية إسقاط النظام بالقوة العسكرية، وإن استمر الصراع المسلح سنوات أخرى. لقد كان بالإمكان إسقاطه فعلاً لو استمر الحراك السلمي، وتطور وصولاً للعصيان المدني، لكن هذا الخيار لم يعد قائماً اليوم، بسبب نجاح النظام في دفع المتظاهرين إلى حمل السلاح، وخوض الصراع ضده في ساحته التي يتفوق فيها عليهم، ومن جهة ثانية لأن لجوء الناس إلى العنف سمح ، مع الوقت، بتحول الحراك الشعبي المدني المطالب بالحرية والديموقراطية إلى قوى جهادية متطرفة همها إسقاط النظام من أجل بناء نظام إسلامي على النمط القاعدي، وهذا ما أفاد النظام منه سياسياً. ويبقى اليوم الخيار الوحيد الذي يمكن من خلاله إسقاط النظام عبر تفكيكه، هو الخيار السياسي التفاوضي، وصيغة مؤتمر"جنيف 2" المطروحة لتنفيذه. في هذا المؤتمر يمكن جر النظام إلى ساحة الصراع السياسية التي لا يملك فيها عناصر قوة، للعمل على تفكيكه. ويبدأ التفكيك بالمطالبة بضرورة الانتقال إلى نظام ديموقراطي حقيقي، يتم الإعداد له من خلال العمل على دستور جديد، يحوّل سورية إلى جمهورية برلمانية، مع القوانين التنفيذية المتعلقة بالحريات العامة والإعلامية، وتشكيل الأحزاب، وصولاً إلى انتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية متزامنة نزيهة وشفافة تحت رقابة دولية. إن هزيمة النظام عبر صندوق الاقتراع هي الخيار الوحيد الممكن اليوم، ولكي ينجح يتطلب وحدة المعارضة حوله، وتخليها عن الشعارات التي أفاد النظام منها كثيراً، من قبيل التنحي المسبق للأسد ولجميع شخصيات وأركان نظامه، بل محاكمتهم. وينبغي أن لا ننسى أن النظام بحاجة إلى مخرج من الوضع الحالي الذي قاد نفسه والبلد إليه، وهذا ما يمكن تأمينه له من خلال المؤتمر، حتى في صيغته الأكثر إيلاماً بالمعنى الأخلاقي، وهي القبول به منافساً في صندوق الاقتراع. ولتبق للمستقبل مهمة محاسبة من كان له دور في تدمير سورية، وفي مقدمهم مسؤولو النظام، فالشعب السوري لن يسامح أحداً أساء إليه. * كاتب سوري