يصح القول إن تحديد موعد مؤتمر"جنيف - 2"في 22 كانون الثاني يناير، حسم ارتياب المشككين بانعقاده، لكنه كشف تباينات المراهنين على نتائجه، بين متشائمين كثر يرون المؤتمر أشبه برفع العتب، وإجراءً شكلياً لن يسفر عن أية حصيلة مرضية، وبين قلة من المتفائلين تعتبر مجرد انعقاده نقلة مهمة تضع الصراع السوري في مسار جديد. للمتشائمين أسبابهم المتنوعة، أولها انعدام الثقة بجدية ما يسمى التوافق الدولي الراعي للمؤتمر، مشفوعاً بإحساس عام بأن ما يثار عن وجود اتفاق مضمر بين أميركا وروسيا لتمرير حل سياسي في سورية هو مجرد ذر الرماد في العيون، والدليل مصير"جنيف - 1"وبلادة المجتمع الدولي المشينة تجاه استمرار الفتك والتنكيل والخراب، والأهم عجز مؤسساته الأممية عن إصدار قرار يلزم أطراف الصراع وقفَ العنف والخضوع للمعالجة السياسية، بالمقارنة مع سرعة التئامها وتوافقها على تفكيك الترسانة الكيماوية السورية، من دون أن تهتم بمصير ومعاناة ملايين المدنيين أو الطلب مثلاً من الجماعات الخارجية المسلحة التي تنخرط أكثر فأكثر في الصراع الانسحاب الفوري من البلاد. ثانياً، يعرف السوريون نهج النظام في التعاطي مع مثل هذه المبادرات السياسية وقد خبروا جيداً قدرته على استثمارها لربح الوقت والتوغل أكثر في العنف، في إشارة إلى إصراره على تفسيرات خاصة لأجندة المؤتمر تمسخ جوهر التوافق الدولي في"جنيف - 1"، ثم اشتراطه آليات للتفاوض أو حضور شخصيات معارضة تناسبه، والأهم اندفاعه نحو تصعيد عسكري غير مسبوق لاستعادة السيطرة على بعض المواقع المهمة في ريف دمشق وحمص وحلب، عساه يحقق متغيرات على الأرض تطيح دوافع الحل السياسي وتعيد بناء الثقة بجدوى الخيار الأمني والعسكري. ثالثاً، اتساع الهوة بين الطرفين المدعوين للمشاركة والتفاوض في المؤتمر، فالمواقف الواضحة والمعلنة لكليهما متضاربة ومتعارضة بشدة، والمسافات التي تفصل بينهما أكبر من إمكانية ترتيب جدول أعمال ناجع يمكن على أساسه إدارة المؤتمر العتيد. فكيف التوصل إلى خطة للتنفيذ أو تسوية في منتصف الطريق، ويزيد الأمر تعقيداً ما أفرزه طول أمد الصراع من مراكز أمنية وعسكرية داخل النظام نفسه، ومن جماعات مسلحة في المعارضة، تتفق جميعها موضوعياً على رفض تغيير ما أوجدته سطوة الفوضى والسلاح وخسارة ما جنته من مكاسب وامتيازات. مثل هذه القوى، لن تتأخر عن توظيف ما حازته من إمكانات لإفشال أي مشروع سياسي، إن من خلال محاصرة دعاته واعتقالهم أو من خلال تبادل الأدوار لتسعير الصراع العسكري وإبقاء مناخ الحرب مسيطراً على الجميع. رابعاً، ما يثير المزيد من التشاؤم، ضعف المعارضة السورية وغياب موقف موحد لأهم فصائلها من المؤتمر. فإلى جانب من يشجع المشاركة ويعول على المجتمع الدولي في إنهاء المحنة ثمة من يرفض رفضاً مطلقاً التفاوض مع نظام فتك بشعبه ودمّر البلاد، بل يعتبر أن كل موقف مغاير لذلك هو استسلام وخيانة لمبادئ الثورة. وهناك من يتخوف من أن تفضي مشاركة المعارضة في مؤتمر غامض ومبهم إلى مد النظام ببعض أسباب الشرعية ومنحه الغطاء والوقت كي يتوغل أكثر في العنف، بينما يضع آخرون اشتراطات متنوعة لعقد المؤتمر تتراوح بين الإقرار المسبق بتنحية أركان النظام ومحاسبتهم على ما ارتكبوه، أو رفض إدراج إيران في عداد المشاركين وبين اشتراطات محقة بإزالة الالتباسات المرافقة لهذا المؤتمر، خصوصاً التأكد من تنفيذ بنود"جنيف- 1"الداعية إلى وقف العنف وعودة الجيش إلى ثكنه وإطلاق المعتقلين والسماح بحق التظاهر السلمي وتشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات واسعة. في المقابل يستقوي المتفائلون بما يعتبرونه جديد الرغبات الإقليمية والعالمية لإنهاء بؤرة التوتر السورية، رغبات تنامت في رأيهم مع تنامي أخطار امتداد العنف إلى بلدان الجوار، ونجاح الدول الكبرى في إبرام اتفاق مع إيران على ملفها النووي. ويرى هؤلاء أن الاستعصاء المزمن للصراع السوري وحالة الضعف التي وصلت إليها أطرافه، جعلاه فريسة سهلة لقوى التدخل الخارجي وأكثر ارتهاناً لها، ما يمنح المجتمع الدولي قدرة خاصة على فرض الشروط والإملاءات، إن لجهة وقف العنف، أو لجهة تقرير مسار الحل السياسي. ليس غريباً أن يعلن سوريون من عمق معاناتهم عبارات تؤيد مؤتمر جنيف وتعول على نجاحه، فهو عند المتضررين يشبه بوابة خلاص مما هم فيه، خصوصاً أولئك الموجودين في المدن والمناطق المحاصرة أو النازحين واللاجئين في بلدان الجوار، فضلاً عن كثيرين بدأوا يتحسبون من خطورة المقبل وما يحمله من شرور وآلام إن طال أمد الصراع واشتدت لغة العنف. ويأمل هؤلاء بأن يشكل عقد المؤتمر حافزاً لتبديل الصورة النمطية للمشهد الدموي السوري، وأن يفضي، في ظل الإنهاك المتزايد للقوى العسكرية وحاجة حلفاء الطرفين لتخفيف أعبائهم وتقليص أشكال الدعم، إلى تفكيك الدوائر الضيقة المتمسكة بخيار العنف وعزلها، وبلورة قوى تزداد قناعة بضرورة المعالجة السياسية، ولها مصلحة في إنقاذ المجتمع السوري من المصير الأسوأ. ويبقى السؤال، بعد أكثر من سنتين ونصف سنة من عمر الثورة السورية المحاصرة، وما خلفه العنف الأعمى من ضحايا ودمار ومفقودين ومشردين، هل بدأت الأطراف العربية والدولية تستشعر أخيراً أخطار استمرار الصراع الدموي في سورية، وتتحسب من احتمال انزلاقه إلى حرب أهلية واسعة تهدد بامتداداتها أمن دول الجوار واستقرارها، وتالياً هل خلصت إلى إدراك أهمية دورها وتوحيد جهودها من أجل فرض حل سياسي يوقف تفاقم هذه المأساة الإنسانية ويقي المنطقة شرور الانفجار والفوضى؟ ربما تسبر جديتها في إنجاح مؤتمر"جنيف - 2"عمق هذا الإدراك، لكن الأهم حين لا تتلكأ في البحث عن بدائل عند الفشل.