انتهت اجازة الصيف، وبدأ موسم جديد في تركيا، ولكن يبدو أنه لن يحمل جديداً. ففصول الأزمة السياسية متواصلة، وقد تكون أكثر قتامة هذه المرة. فإلقاء نظرة سريعة إلى الأخبار التي تفتتح الموسم السياسي قبل بدء البرلمان دورته الجديدة، يظهر تدهور الوضع في البلاد. فالاحتجاجات تملأ الشوارع مجدداً، وعادت أخبار قتل الشرطة متظاهرين، وباتت سحب الغاز المسيل للدموع جزءاً من حياتنا اليومية. وتفاقمت النبرة المستهزئة بالمتظاهرين ومن يقتل منهم في نشرات وسائل الإعلام الموالية للحكومة. أما مسيرة الحل السلمي للقضية الكردية فهي متجمدة وتترنح، وحزب"العمال الكردستاني"يهدد باستئناف القتال. وحزمة الإصلاحات المنتظرة تتأجل يوماً بعد يوم. وقيود الرقابة على الإعلام تشتد وهامش حرية التعبير يضيق، والتوتر في الشارع بين أنصار الحكومة والمعارضة بلغ ذروة لا نظير لها. وجلي أن الحكومة عجزت - أو لم ترغب في ذلك ربما - عن حل مشكلة الاحتجاجات والمعارضة التي انطلقت في حديقة غيزي غازي بداية الصيف الماضي. وها هي المشكلة تتفاقم. فالحكومة مصرة على التعامل مع الاحتجاجات على أنها نوع من الإرهاب، ومقاربة المطالب السياسية على أنها تهديد للأمن القومي. فبكاء أردوغان على"الإخوان المسلمين"في مصر وتجاهله من يموت في الاحتجاجات في بلده، واستثمار الأزمة السورية سياسياً لخلق توتر طائفي في تركيا، وترك الحبل على الغارب لكل مزايد ومتاجر بهذا الأمر - بل الانقضاض على كل من يحذر من خطر أو مغبة ذلك وإقصاؤه - كل هذا أدى إلى تجذر الأزمة السياسية التي تعصف بتركيا اليوم. ويبدو أن أردوغان كان ضحية قوته. فهو بلغ مبلغاً من القوة السياسية يحمله على إهمال الرأي الآخر من غير أي اعتبار. فهو يسمع فقط المديح ولا يسمح النصيحة. وهو أحاط نفسه بمجموعة من"الصفوة"هي العين التي يرى بواسطتها تركيا. ولا يخفى عليه أن شعبيته كبيرة في أكثر من وسط شعبي. وهو يدرك ان في وسعه سحق كل معارض وكل مخالف له بالرأي من دون أن يخشى محاسبة الناخبين أو تراجع نسب الاقتراع له. تعيش تركيا أكبر مأساة. فأردوغان يزداد قوة وشعبية إذ يزرع الفرقة بين الأتراك، ويحمل الناس على التصادم وينفخ في الاستقطاب، فتتعاظم نواته الانتخابية وشعبيته. وعوض السعي الى الحلول المعتدلة والوسطية والتفاهم وتقليل الخلافات، يسعى إلى خلاف ذلك. فهو على يقين من أن مثل هذه السياسة - على رغم خطورتها - يصب في مصلحته الانتخابية. إن جر تركيا إلى مستنقع الشرق الأوسط والعيش كأننا نعيش في مصر أو سورية وجر مشكلاتهما السياسية إلى الداخل التركي، تساهم في افتعال مشكلات لا تنم إلى الشعب التركي بصلة. فتركيا اليوم تنجرّ إلى استقطابات منها، السني - العلوي، والكردي - التركي، والإسلامي - العلماني، وسبق لها أن تجاوزت هذه المشكلات في الماضي، وتميزت عن الدول العربية وغرّدت خارج سربها. لكن رمي تركيا في هذه الدوامة لا يصب إلا في مصلحة أردوغان الانتخابية فحسب! إذ لا يمكنه أن يخسر الانتخابات في بلد ذي غالبية سنية تركية متدينة ساحقة. وهو يعتبر ان ثمة حرباً يخوضها ضد المعسكر الآخر، العلماني- العلوي - الكردي! والسياسة لا تقتصر على الفوز في الانتخابات مهما كانت النتائج المترتبة على الفوز ووسيلته. ولا يسع السياسي أن ينشغل فقط بصندوق الاقتراع! نوري المالكي فاز في الانتخابات، ولكن انظروا إلى سوء حال العراق اليوم، وتدهور الأوضاع فيه مرآة السياسات الطائفية للمالكي التي ترمي إلى الفوز بأصوات الناخبين الشيعة، وهم الغالبية في العراق. فهل هذا هو النموذج الذي نسعى إليه؟ * كاتبة، عن"مللييت"التركية، 15/9/2013، اعداد يوسف الشريف