ارتكز الضابط الكبير ذو السيفين بمرفقه على الملف الأزرق النائم على منضدة خشنة في غرفة الاجتماعات. فكر في ما وصل إليه حاله وما أتى به إلى هذه القرية. سنوات خدمته الطويلة أوشكت على الانتهاء، ويمكنه أن يكتفي منها بما حقق من انتصارات. يمكنه إبلاغ الوزارة أن الأمن استتب ولا حاجة لوجوده في هذا المكان العاطل من أقل متطلبات الرفاهية، ولا بد من أن رفاق عمره من مساعدي الوزير سيعضدون موقفه، بخاصة أن بعضهم حضر مع الحملة من اليوم الأول، وسرعان ما عاد إلى مكتبه في نهاية الليل بحجة أن الوضع مستقر، وليس هناك انقلاب أو مخطط إرهابي ولا تفجير نووي كما يظنون، فالأمر لا يزيد على كونه خناقة بين تجار مخدرات، فعلقوا البلدة أمانة في عنقه وعادوا إلى أسرتهم، محددين له يوماً أو يومين كي يلحق بهم، شعر هو ذاته أن ما أرسل به من تقارير وما قاله في القنوات التلفزيونية أقرب إلى التفسير المنطقي، وأن الأمر لن يخرج عما تكهن به، لكن المشكلة المحيرة هي اختفاء أكثر من سبعين شخصاً ما بين امرأة وطفل ورجل، وبمجرد أن يُرفع الحزام الأمني عن المكان سيفاجأ الجميع بحجم الكارثة، وهي بكل تأكيد كارثة لا حل لها، فلا جثث ولا أشلاء ولا حتى بقايا دماء، المكان يبدو كخرابة قديمة لم يسكنها أحد من قبل، فأين ذهب الناس، هذا السؤال جعله يشعر بأن كل ما فعله وأدلى به من تصريحات ما هي سوى لغو سيحاسب عليه، ولن يقبله الذين دفعوا به إلى التجربة ليحييهم ويحيا معهم، أو ليموت وحده ويبقوا هم على قيد الحياة في منتجعاتهم الساحرة. لم يشعر طيلة تاريخه الأمني بلحظة خوف واحدة تجاه ما حاكه من أكاذيب، كان يلفق الأحداث ويؤلف الأدلة ويستحضر الشهود من تحت الأرض، وكان رؤساؤه يهنئونه على ذكائه كلما وجدوا على مكاتبهم في الصباح حلولاً لمشكلاتهم. كانوا يسمونه مؤلف الروايات العجيبة، وكان يشعر بأنه ضل طريقه من الأدب إلى السينما، فالاستخبارات والأمن القومي،"كل شيء تحت السيطرة"، هكذا طأطأ رأسه ساخراً من الكلمة التي اعتاد على ترديدها حتى في أحلك الظروف، تلك الكلمة السحرية التي طبخ تحت رايتها السيناريوات التي جعلته يترقى أسرع من البرق، وكان من الممكن أن يكون الآن مساعداً للوزير، إن لم يكن الوزير نفسه، لولا تلك الحماقة التي ارتكبها في سيناء. كان ذلك عقب الانفجار الذي زلزل أعمدة وجدران أحد فنادق شرم الشيخ، وراح ضحيته عدد من الأبرياء والمشاهير. وأصبح عليه أن يضرب الودع ليثبت أن عين العدالة دائماً مستيقظة لا تنام، والجائزة بالطبع لن تقل عن وزارة بحجم دولة كاملة، فألقى بالدبابير والنياشين على الأرض وعلق السيفين المتقاطعين على وجهه"أريدهم قبل أن أصل". ومن النظرة الأولى في أوراق التحريات توصل إلى أن الحقيقة لا تخرج عن سيناريوين، الأول أن الجناة مجموعة منظمة خلفها جهاز مدرب على أحسن وجه، والثاني أن زملاء آخرين فعلوا ذلك عن عمد لإجبار جار السوء على دخول القوات المسلحة إلى المناطق منزوعة السلاح، لكنه بعد تأمل أدرك أن أياً من السيناريوين لا يمكن لسينما الخيال العلمي أن تخرجه في بلادنا، ومن ثم فمهمته هي الوصول إلى السيناريو الأمثل وليس الحقيقة المثلى، فطَرَحَ يوسف شاهين أرضاً وأخرج صلاح أبو سيف من قبره قائلاً إن في سيناء تنظيماً تابعاً للقاعدة يدعى"جُند الله"، ومهمته ضرب السياحة وفتح غزة على سيناء، وقد تسلل من الأولى إلى الثانية عبر أنفاق سرية ومساعدة أبناء البدو الذين تدربوا على تنفيذ العمليات في إسرائيل. حين وضع القلم واتخذ طائرته كحاكم عسكري ما زالت انتصاراته تهز الأرض من تحته وتحت خصومه، كانت جملته واضحة لرجاله"أريدهم أحياء أو موتى"، فانطلقت العربات السوداء بكلاب الحراسة لتقتحم البيوت والمجالس والمخادع، وتقتلع الرجال من أحلامهم لتضعهم أمامه على منضدة طويلة، كانت خطته مستمدة من عمله مع الأميركان حيث الصدمة والرعب، لكن الصدمة لم تحدث سوى مزيد من النفور، قال: الجناة لم يخرجوا من هنا، وليس أمامكم غير أن تخرجوهم أو نخرجهم نحن، ولديكم ثلاث ساعات لإحضارهم. انتهى الاجتماع ولم يفهم أي من رؤساء القبائل وبطونها غير رسالة التهديد. كان الجميع يتصور أن الضابط الكبير سوف يعتذر عن الطريقة التي جمعوا بها، لكنهم فوجئوا به يلقي إليهم بأوامره وكأنهم عبيد أوكلتهم أمه إليه، فأومأ بعضهم إلى بعض أن يذهب إلى الجحيم، وعادوا متناسين ما قاله جملة وتفصيلاً، لكنهم مع البدايات الأولى للنهار فوجئوا بالعربات المصفحة تحيط بالبيوت وتعتقل من تجده في طريقها، كل من كان في سن حمل السلاح أو تجهيزه كان هدفاً للرصاص أو السحل، ورغم علو الجبال واتساع السهول والوديان فقد انتشرت الأخبار بسرعة الريح، ولم يكن أمام الشيوخ إلا أن يصدروا أوامرهم باللجوء إلى إسرائيل، فزحفوا إلى الحدود مطالبين بالجنسية الملعونة، وتسرب الخبر إلى الجرائد فجاءت الكاميرات والمراسلون من كل فج عميق، ليجد الرجل الكبير نفسه في ورطة جديدة، فلم يكد يخمد فتنة طلب النوبيين الانفصال حتى دخل في فتنة طلب البدو الانضمام إلى جار السوء، فأمر بالإفراج عن المختطفين، وأرسل وزير المخابرات الشهير ليقبل الرؤوس والأقدام، حتى قبلوا الجلوس معه في خيمة بنوها على ظهر الرمال المتحركة بينهم، ولم يكن لذي السيفين فضل في أن تمر العاصفة الهوجاء من دون أن تصيبه بجروح، فأمام صراع الحمائم والصقور، وملائكة الليل شياطين النهار، اضطر الوزير إلى أن يدافع عن رجاله، واضطر الرجل الكبير إلى نقل الملف من قدم الأمن إلى فم الجيش، وفي الخفاء تم لفت نظر ذي السيفين ونقله إلى الأمن العام. * من رواية تصدر قريباً