يوم أعلن شبان إسلاميون محتجزون لدى السلطات الأردنية إضراباً مفتوحاً عن الطعام، احتجاجا على تأخير محاكماتهم بتهمة تقويض النظام، نزل العشريني محمد الحاج المنتسب إلى جماعة"الإخوان المسلمين"إلى ساحة المسجد الحسيني وسط عمان للاحتجاج أيضاً، تملأه مشاعر الغضب ضد حكومته، متهماً إياها ب"عسكرة الشارع". لكن الحاج الذي يعمل في القطاع الخاص، لم يجد سوى بضع مئات يتبعون الجماعة، ويرفعون رايات ولافتات منددة بتحويل ناشطين إلى القضاء العسكري، فيما كان أفراد شرطة غير مسلحين يفصلون بينهم وبين حشد أصغر جاء إلى المكان ذاته ليؤكد تأييده الملك عبدالله الثاني. تميز إسلاميو الأردن طوال العقود الماضية بأنهم منظمون للغاية، فقد اعتادوا حشد أنصارهم عبر توزيع المنشورات في المساجد والساحات العامة. وعادة ما كانت تستقطب احتجاجاتهم الرئيسة عشرات آلاف المشاركين، لكن الأمر كما يبدو بات مختلفاً، والأسباب كثيرة. ودان الإسلاميون على مدى الأيام الماضية استمرار اعتقال 4 من عناصرهم، هم باسم الروابدة وهشام الحيصة وثابت عساف وطارق خضر، تتهمهم محكمة أمن الدولة بالعمل على تقويض الحكم الهاشمي، وهي تهمة تصل عقوبتها إلى السجن 15 عاماً. يقول الحاج"مستمرون بالاحتجاج حتى تتحقق الإصلاحات كافة، وينال الشعب حقه في أن يكون مصدر السلطات، ويختار حكومته بنفسه بدل أن يعينها الحكم". ويؤكد معلقون سياسيون أن"ذكاء"الحكومات الأردنية باستخدام ورقة خوف المواطن من عواقب التصعيد، إلى درجة تمرير قرارات اقتصادية قاسية تطاول سبل عيش المواطن الأساسية، كان عاملاً أساسياً في تراجع حدة الاحتجاج، وأن جماعة"الإخوان"فقدت جزءاً كبيراً من تأثيرها بسبب ما يشهده الإقليم. والمؤكد أن حمامات الدم التي تشهدها سورية، جارة الأردن الشمالية، ألقت ظلالاً ثقيلة على الأردنيين الفقراء، ما أدى إلى اضمحلال التظاهرات التي رافقها عنف قليل، ابتعدت فيها أجهزة الشرطة غالباً عن استخدام الذخيرة الحية. ويبدو أن التطورات الأخيرة في مصر، هي الأخرى، كان لها أثر مماثل على خيارات الأردنيين، ودفعت كثيرين إلى إعادة حساباتهم، وعلى الأرجح أنها تسببت بانخفاض جاذبية الثورات، وربما كان لهذا الانخفاض ارتداد أكبر على ساحات تظاهر الحراك التي أصابها"الكمون"، وباتت بالكاد تجمع العشرات والمئات وبضعة آلاف في أحسن الأحوال. والأهم أن الحدث المصري وقبله السوري، أديا إلى انشطار حاد في جسد الحراك الإسلامي والعلماني، وانسحب هذا الانشطار على"الجبهة الوطنية للإصلاح"، التي تشكلت على وقع الانتفاضات من كيانات إسلامية وقومية ويسارية بزعامة المعارض الآتي من حضن الدولة أحمد عبيدات، وهو رئيس وزراء سابق، شغل أيضاً منصب مدير جهاز الاستخبارات العامة. ويرى مراقبون ومعلقون تحدثت إليهم"الحياة"، أن الحكم الذي عانى احتجاجات لم تهدأ طيلة العامين الماضيين، خصوصاً داخل مناطق الريف والقبائل، عاد ل"يتنفس الصعداء"عقب إطاحة الرئيس المصري الإسلامي محمد مرسي، وبدأت مع"نشوة الانتصار"حملة مضادة ضد بعض حراكات وجه لقادتها تهم إطالة اللسان. وكانت الحكومة الأردنية ألقت بثقلها بسرعة وراء حكام مصر الجدد، ودعمت بقوة دعوات التوحد وراء مكافحة"الإرهاب"داخل المدن المصرية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد عمدت مؤسسات بعضها أمني إلى التلويح بعصا حل جماعة"الإخوان"، وسرت معلومات تؤكد نية الدولة تحويل ملف"مخالفات"الجماعة على القضاء، تمهيداً لحلها. لكن الرجل الثاني لدى الجماعة زكي بني أرشيد، قال إن الحدث المصري"ما زال في بدايته، والثورة الحقيقية هناك بدأت الآن، وما جرى محطة مرحلية في تاريخ الثورة، وعلى الدولة الأردنية التريث قليلاً قبل المجازفة بقرارات غير محسوبة". وأضاف"ليس من مصلحة النظام أن يربط مساره السياسي بالأجندات الخارجية أو الأحداث الإقليمية بل الانتباه إلى الخصوصية الأردنية. لا يظن أحد أن الاحتجاجات انتهت. ترف الانتظار لا يملكه أحد". وكانت معلومات حصلت عليها"الحياة"، كشفت وجود تيار فاعل داخل الدولة يهدف إلى استثمار ما حدث في مصر، لتحجيم الجماعة بصورة أكبر، عبر حملة إعلامية وسياسية وربما قانونية، فيما ذهب تيار آخر أقل تشدداً إلى التفكير بإمكان إعادة فتح قنوات الحوار مع القادة الإسلاميين، لكنه يواجه بسؤال الصيغة والمضمون، فهل تكون الصيغة ثنائية الدولة و"الإخوان" أم متعددة تدمج فيها الجماعة؟ وهل يتعلق المضمون بقانون الانتخاب أم موضوعات أخرى. ويؤكد قريبون من الدولة، أن دوائر الحكم ربما تؤخر موقفها الجديد من الجماعة، إلى حين استقرار الحالة المصرية على سيناريو محدد، ومصير الخلافات الداخلية التي تعصف بكيان"الإخوان"، وهي خلافات جعلتهم ينشغلون بأنفسهم إلى حد كبير. وكانت نذر الخلاف الداخلي لاحت في الأفق مجدداً، بعد قيام أمين عام حزب"جبهة العمل الإسلامي"الذراع السياسية ل"الإخوان"حمزة منصور بإرسال برقيات تهدئة إلى النظام في خصوص الملف المصري قرئت من دوائر القرار على نحو إيجابي، خلافاً للبرقيات الساخنة التي قدمها مراقب الجماعة الصقوري همام سعيد وحليفه القوي بني أرشيد، الذي لم يتردد في اتهام أركان الدولة بدعم"الانقلاب العسكري"على الرئيس المصري يوم الثالث من تموز يوليو الماضي. وكان لافتاً ما قيل إنها رؤية قدمها أحد أبرز قادة الحمائم رحيل غرايبة، في شأن الملف المصري، ودعوته إلى استلهام الدروس والعبر من"الإخوان"المصريين، قائلاً إن على الجماعة الأردنية"تطوير خطابها، وتغيير آليات عملها، ومعالجة أخطائها، والتخلص من عناصر التأزيم وإبعادهم عن مواقع القيادة، من أجل امتلاك القدرة على حيازة ثقة مجتمعاتهم بكل مكوناتها". وجاءت هذه التصريحات على خلاف تصريحات أخرى كان أطلقها زعيم الجماعة سعيد، وقال فيها إن"الإخوان"الأردنيين"لا يحتاجون مراجعة رؤيتهم السياسية في ضوء مجريات الأحداث التي تشهدها مصر والانقلاب على مرسي". وشهدت جماعة"الإخوان"في الأردن أزمات داخلية عدة، لكنها أقل حدة من اليوم، أبرزها عام 1997، عندما قدمت قيادات بارزة استقالاتها من الجماعة احتجاجاً على قرار مقاطعة الانتخابات النيابية. وثمة من يرى أن الحكم الأردني غير مهدد حتى الآن بما قدم من إصلاحات تتسم بالحذر، وهي إصلاحات بدا أنها تستند غالباً إلى"نظام القطعة"، ربما بهدف شراء الوقت كما يرى مراقبون، إذ لم تشهد الفترة الماضية سوى تعديلات قليلة على الدستور وقانون الانتخاب. وكانت النخب السياسية الرسمية راقبت بعين القلق والخوف المكاسب التي حققتها أحزاب"الإخوان"في تونس ومصر وليبيا، واعتبرت صعودها بمثابة إشارة إلى تمكين"الإخوان"الأردنيين في المستقبل. وكان رئيس الوزراء الأردني عبدالله النسور أعلن الأربعاء، على نحو مفاجئ، تعديلاً وزارياً واسعاً، عزز قبضة التكنوقراط المكلفين تسريع وتيرة الإصلاح، وذلك قبيل انتخابات محلية ستجرى نهاية الشهر تقاطعها الجماعة. وبات التعديل ملحاً في الأردن بعدما واجهت الحكومات المتعاقبة عقبات سياسية واقتصادية على الصعيدين الداخلي والخارجي. ولا يعتقد"الإخوان"وحلفاؤهم أن التعديل الجديد الذي طرأ على الحكومة هذا الأسبوع، سيضع نهاية لمطالبهم التي تجاوزت الخطوط الحمر، بدعوتها صراحة إلى تقويض صلاحيات الملك. ويكشف التعديل كما يبدو رضا القصر عن رئيس الحكومة، الذي نجح خلال الأشهر الماضية في اتخاذ خطوات اقتصادية صعبة أوصى بها صندوق النقد الدولي، ما سمح للمملكة بالحصول على تمويل بقيمة بليوني دولار. وربما سعى التعديل أيضاً إلى تأكيد استقرار الدولة الأردنية، في ظرف إقليمي بالغ التعقيد. ويقول الباحث لدى مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية محمد أبو رمان ل"الحياة"إن الربيع الأردني"لم ينته بعد، لكنه يعيش مرحلة تشظي إن صح التعبير. أسباب الغليان في الداخل لا تزال قائمة، أهمها غياب العدالة، وفقدان الأمل في تحقق الإصلاح الجذري". ويرى أبو رمان أن"احتفال الدولة المبالغ فيه بسقوط"الإخوان المسلمين"في مصر، ربما يؤدي إلى نتائج عكسية داخلية خلال الفترة المقبلة". ويضيف"كل المؤشرات تؤكد أن الأردن كان داعماً لتدخل العسكر في المشهد السياسي المصري، ومثل هذه المؤشرات التي سببت إزعاجاً لشريحة من الأردنيين، ربما تحول الأسابيع والأشهر المقبلة إلى برميل بارود، ينتظر أي خطأ يرتكبه الرسميون للانفجار". ويقر الكاتب والمعلق السياسي فهد الخيطان بتراجع الحراك، ويقول"الانقسام الحاد داخل النخب، بسبب ما يجري في سورية وما جرى أخيراً في مصر، كان له دور كبير في اضمحلال الاحتجاج. الملف السوري، على سبيل المثل، شكل عاملاً غير محفز للحراكات مجتمعة، ثم جاء الملف المصري ليأخذ البلد في مسار آخر، حيث أعاد العنوان التقليدي إلى الصدارة وهو ثنائية الدولة و"الإخوان"". وحول ما يشاع عن إمكان أن تتراجع الدولة عن خريطة الإصلاح، يجيب الخيطان"ثمة طرح قوي داخل مطبخ القرار يرى أن اللحظة مناسبة لإعادة توجيه الإصلاح من جديد وضبط إيقاعه، لا بل التراجع عن بعض المكتسبات السياسية والاقتصادية التي تحققت خلال عامي الربيع العربي". لكن سميح المعايطة، الوزير والناطق السابق باسم الحكومة، يرى عكس ذلك. يقول إن"ثمة معطيات جديدة أدت إلى تراجع الحراك. التوجه إلى إصلاحات واسعة وإجراء انتخابات برلمانية نزيهة غيّرا اقتناعات الناس. إضافة إلى أن تجارب من حولنا كانت لها دلالات كبيرة: ففشل التجربة الانتقالية في مصر وأداء"الإخوان"المرتبك والفاشل هناك، إلى جانب استمرار القتل في سورية شكلت قناعات شعبية جديدة، كما أن إيجابية الملك ورفضه التعامل الأمني جعلت الأمور أكثر سهولة". وثمة من يرى أن طريقة التامل الرسمي مع الحراك، سواء عبر التعاون مع بعض صفوفه الفاعلة أو اختراق أخرى، ناهيك عن الأزمات الداخلية التي تعيشها فعاليات الحراك ذاتها، أدت إلى انحساره في كثير من القرى والأقاليم إضافة إلى العاصمة عمان. ويخشى الأردنيون من مختلف القطاعات الافتقار إلى الأمن داخل مناطقهم، أما المال الذي جعل الاستياء كامناً في المجتمع، فلم يعد موجوداً. وفي جرش وهي منطقة عشائرية جبلية شاركت في الاحتجاجات خلال الأشهر الماضية، على نحو خجول، ينتظر أصحاب المتاجر الذين يبدو عليهم الوجوم، الزبائن في شوارع تجارية ضيقة تحت المدرج الروماني القديم. يقول أحمد العتوم"الحال واقف. الاحتجاجات ما حققت شيء. وهينا شايفين اللي صاير في سورية ومصر". وفي متجر يبيع الأواني البلاستيكية الرخيصة الثمن، قال علي أبو جبل الذي كان يرتدي قميصاً داكناً مهترئاً وسروالاً غطته طبقة من الغبار، إنه حصل لتوه على معاش التقاعد الذي يبلغ 190 ديناراً ولم يتبق معه سوى بضعة دنانير، بعد أن سدد التزاماته الشهرية، واستطرد بالقول"لا نريد شيئاً سوى نعمة الأمن والأمان. الاحتجاج والتظاهر قد يجران علينا ويلات كبيرة نحن بغنى عنها". وفي جرش كما بقية المناطق الأردنية فرص العمل نادرة. ويعتمد السكان أساساً على زراعة الزيتون. وتخشى غالبيتهم أن تؤدي الاحتجاجات المحلية، إذا خرجت عن السيطرة، إلى سيناريو مشابه لما تشهده سورية، أو ما شهدته مصر خلال الأيام الماضية.