مع الإقرار، على عكس ما تدل تصرفات بعض اقسام المعارضة المصرية، بحق الاسلاميين في تولي السلطة طالما وصلوا اليها بانتخابات نزيهة، لا بد من القول إنهم الاقل تأهيلاً للالتزام بروح الديموقراطية وليس إجراءاتها وحسب. أقل، بما يعني ان الفرق بينهم وبين غير الاسلاميين فرق درجة انعكاساً للمحدد الديني وراء ضعف تأهيلهم. لكن المحدد الاقوى المشترك بين الطرفين انهما يخوضان تجربة تأسيس الديموقراطية في مجتمعات ما قبل?حداثيه، وهذا غير ممكن على ما يستشف من تاريخ التجربة الديموقراطية-الاصل وهي الغربية، والأمر ينطبق على غير المصريين أيضاً. يستحيل في طبيعة الحال احتذاء المسار الغربي للحداثة بسبب الفارق الزمني واختلاف السياق التاريخي والمجتمعي، لكن الممكن والضروري توطينه في بيئة ثقافية-اجتماعية وزمن مختلفين وصولاً إلى جوهر حصيلته ايقاظ العقل العربي - الاسلامي من سبات عمره من عمر مقولة الغزالي الشهيرة"من تمنطق فقد تزندق"في القرن الحادي عشر. وهو سباتٌ لم يكد يُستفاق منه بعد ذلك بثمانية قرون حتى دُفع إلى درجته الأعمق، إذ انتهى مشروع التحديث السطحي على يد الانظمة والأيديولوجيات"التقدمية"إلى تسييد تيارات الاسلام التقليدي المتحجرة، لاقتصاره على تغيير البنى المادية دون العقل والثقافة. من هنا الضرورة القصوى لمراجعة قضية الغزو الأميركي للعراق، التي ارتفعت في مقام الإجماع على إدانته إلى ما يشبه المقدسات بالنظر الى الانهيار المروع للأحوال العراقية بعده ومخزون العداء العربي- الاسلامي لأميركا. التكييف المغاير للغزو يصنفه كنقطة تقاطع بين اهداف الاستراتيجية الاميركية-الغربية وحق العراق والعراقيين الطبيعي في الحرية، بما يعنيه من شروع في بناء نظام ديموقراطي. بعد ذلك بثماني سنوات، انبثق ربيع الحرية العربي ليؤكد بوضوح يغني عن كل تحليل صحة هذا التكييف، بخاصة في النموذجين الليبي والآن السوري، لا فرق إن جاء التدخل الغربي العسكري متردداً ومحدوداً وبطلب صريح في هذين النموذجين، أو متحفزاً وواسعاً ببعض طلب كما في النموذج العراقي. كذلك الامر في ما يتعلق بما يبدو أنه فوضى غير خلاقة بعد سقوط الانظمة الاستبدادية في كل نماذج"الربيع العربي"، إذ يعود ذلك إلى القاعدة الصخرية لمعضلة الديموقراطية كوعي متمكن في العقل العام، متمثلة في غياب شرط الحداثة، وهو ما يستدعي التجرؤ، وبإلحاح، على هدم صنمها الاكبر: سلبية الغزو الاميركي-الغربي وإيجابية المقاومة. لقد شهدت العواصم الغربية أول وأكبر التظاهرات ضد الغزو الاميركي للعراق، من بينها مليونية للمرة الاولى في تاريخ بريطانيا، وجاء انتقاد اخطاء الادارة الاميركية المعروفة في إدارة اوضاع عراق ما بعد نظام صدام من المصدر نفسه، بل من داخل الإدارة، وهو ما تمثل في الخلاف بين وزارتي الخارجية والدفاع الذي تصاعد حتى أطاح وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، أبرز ممثلي المحافظين الجدد. في الجانب العراقي أيضاً تصاعد نفوذ قوى التطرف الديني، مع فارق حاسم وهو انعدام المصدّات الديموقراطية لشكم غلوائها وتدارك الأخطاء، فكان أن شكلوا قوة الدفع الرئيسة وراء هدف تصفية الاحتلال عنفاً، انسجاماً مع تخريجات التحريم الديني وليس مع معايير الوطنية، سليمة كانت او خاطئه، وذلك بدلاً من هدف إرساء قواعد الديموقراطية بالاستفادة من الخبرة والامكانات الغربية في التنمية الديموقراطية والاقتصادية، وتصفية الاحتلال سلماً. هكذا بدأت النسخة العراقية للفوضى غير الخلاقة حرباً جهادية ضد الكفر بزعامة القاعدة، خلع عليها التأييد العربي الجارف بزعامة الاسلاميين ومعهم القوميون وبعض اليساريين، زي مقاومة الاستكبار والامبريالية. بيد انها لم تلبث أن انحلّت إلى حرب اهلية قتل فيها ما يتجاوز المئة الف عراقي تجلياً للقوالب العقيمة التي أعادت قيادة صدام تشكيل المجتمع العراقي وفقاً لها. ففي مواجهة التكلفة البشرية والمادية الباهظة لسلسلة الحروب المتواصلة تقريباً منذ 1975 الاكراد، إيران، الكويت والحصار الغربي المحكم ل13 سنة، على رغم السماح باستيراد الطعام والدواء، أطلقت قيادة صدام موجة شحن ديني ممنهج لامتصاص ردود الفعل شمل حتى برامج التثقيف الحزبي البعثية. وبالنظر إلى الانغلاق الخانق للفضاء العام، لم يبق من مجارٍ مفتوحة لتصريف الضغوط الهائلة المتولدة عن هذه الاوضاع على النفسية والعقلية العراقيتين إلا تلك التي حفرها الأجداد الغابرون في زمن طفولة البشرية بكل تعقيداتها وثاراتها، دينية سنية-شيعية وقومية عربية- كردية. من هنا كان طبيعياً ان تتخذ"المقاومة"سمتاً مغرقاً في تخلفه المفاهيمي والطائفي فجّر رد فعل شيعياً من نوعه، وذلك عندما أقدمت على نسف مرقدي الإمامين العسكريين في شباط فبراير 2006 بينما عجزت قيادات مرحلة ما بعد صدام، محاكية ومرسّخة تغلغل الطائفية وسط قواعدها، عن إقامة نظام سياسي يحيّد تأثير التطرفات الكثيرة ويتيح مجالاً لظهور الشق الايجابي الآخر من الغزو الاميركي-الغربي، وهو كونه مصدر إسناد لإعادة بناء أجهزة الدولة، والاهم من ذلك، إرساء قواعد التحول الديموقراطي. عندئذ كانت الظاهرة الاحتلالية ستلد نقيضها كما حدث مع الاستعمار الكلاسيكي حيث تولت القوى الاجتماعية التحديثية التي تسبب في نشوئها خدمة لأغراضه في التحكم السياسي والنهب الاقتصادي، قيادة حركات الاستقلال الوطني. وفي نموذج توضيحي لهذه المقولة، يرد الخلاف العلني الذي نشب بين الولاياتالمتحدة وألمانيا عندما رفضت الاخيرة تأييد الموقف الاميركي في شرعنة قرار الغزو دولياً على رغم ان نهضتها الاقتصادية والديموقراطية بعد الحرب العالمية الثانية تمت في إطار علاقة وثيقة مع اميركا أبرزها مشروع مارشال. الخلاصة ان الغزو كان حتمياً على أية حال بدوافع المصلحة الاميركية الاستراتيجية، لكنه شكل، مع ذلك، فرصة العراق والعراقيين لاستعادة حقهم غير القابل للتصرف في الحرية. وهي وحدها التي تؤهلهم، على المدى الابعد، لتغليب مصالحهم الوطنية والتزاماتهم العربية والاسلامية على المصالح الاميركية-الغربية. وإذا كانت المسؤولية عن إهدار هذه الفرصة وغرق العراق بدلاً من ذلك في دوامة العنف الطائفي المتبادل تقع على عاتق نظام صدام بصورة أساسية وليست كلية، فإن تخلي الفكر العربي عن تقويم حدث الغزو على هذا النحو، خوفاً شعورياً أو لا شعورياً من الاتهامات المعهودة، جعل منه، موضوعياً، شريكاً في هذه المسؤولية، تاركاً بسطاء العراقيين والعراقيات يخوضون ببسالة معركة الحياة والموت اليومية من أجل البقاء المجرد. * كاتب سوداني