السبر أو التقويم في المطلق عملية صعبة، ذلك أنه يتطلب أن تعرف أو تتعرف الى الشيء محل التقويم: طبيعته وتركيبه وظروفه والأدوات التي تلائمه. والتقويم أعلى وأعقد عندما يكون متعلقاً بالمعرفة والعلم، لأنه ينصرف إلى أخطر ما في الإنسان وأشده تركيباً، نعني الفكر، ناهيك بأن يكون هذا الفكر ذا خصوصية ولغة وظروف متفردة، نعني التراث الذي يتمثل أكثر ما يتمثل عندما يكون لا يزال في وعائه الأول أو الأصلي: المخطوط. إن خصوصية المخطوط تستلزم بالضرورة خصوصية عملية التقويم ذاتها، إضافة إلى أدواتها ولغتها وطرائقها. ولكن ينبغي أن نلفت إلى أن التقويم هو بتركيز شديد يعني تقدير القيمة، وليس التقدير المراد هنا بمعنى إعطاء المخطوط القدر أو القيمة أو التعظيم، فالتقدير بهذا المعنى إنما يصح بوصفه موقفاً مبدئيّاً من التراث في مجمله، أما إذا ما انتقلنا إلى واقع التراث، بمعنى مواجهة مفرداته، أي كل مخطوط على حدة، فإن التقدير يصبح بمعنى وزنه ومعرفة قدره من جهات مختلفة، وقد ترتفع القيمة بالجملة كلية، وقد تتوسط، وقد تنخفض أو ربما تنعدم. وقد ترتفع من جهة، وتتوسط من جهة، وتنخفض أو تتدنى من جهة ثالثة. والحكم في ذلك إنما هو في الأسس التي تقوم عليها عملية التقويم في ذاتها. إن تحليل بنية المخطوط العربي يدلنا على أنه يتألف من ثلاثة مكونات رئيسة: - الجسم، أو الكيان المادي. - النص، أو المحتوى المعرفي. - خوارج النص، أو التاريخ التوثيقي والاجتماعي للمكونين السابقين. أما الكيان المادي فهو الذي يجعل من المخطوط أثراً، مفرداته الأساسية: الورق، والحبر، والتجليد، وربما الخط. وتحت كل مفردة من هذه المفردات تفصيلات، ويجمعها في الدرس عنوان واحد: صناعة المخطوط. وأما الخوارج فهي كل ما عدا النص مما نجده على الغلاف، وفي الحواشي، أو الهوامش، وفي الصفحة الأخيرة التي ينتهي فيها النص، حيث قيد الختام، أو حرد المتن، وربما في صفحات تالية. في الغرب يجمعون الدراسات التي تتصل بالكيان المادي والخوارج تحت عنوان علم واحد هو ما يسمونه: الكوديكولوجيا، أو علم المخطوطات. ولا بد من تأكيد أن"للخوارج"قيمة عالية، فعن طريقها يتم توثيق"النص"أي معرفة عنوانه واسم مؤلِّفه وحراكه التاريخي والعلمي: مَن كَتبه، ومتى كُتب، من قرأه، ومَن سمعه، وما هي الأيدي التي تداولته، ومَن امتلكه، أو باعه، أو وقفه، وما هي الأماكن التي شهدت ميلاده وتنقلاته... وأمور أخرى كثيرة لها دلالاتها التوثيقية والتاريخية والحضارية. يتبقى"النص"ذلك العمل العلمي الذي يمثل فكر صاحبه المؤلِّف وهو الذي يحظى باهتمام المشتغلين بالمخطوط، وعليه تقوم ما يمكن تسميته: عمليات النص، أي الفهرسة، والتحقيق، والنشر. الفهرسة تعريف، والتحقيق ضبط وتوثيق وتعليق، والنشر معروف. ولا شك في أن هذه العمليات كلها دوران في فلك النص، وعلى رغم أهميتها فإنها لا بد من أن تتوج ب"التوظيف"الذي يقوم على أمرين خطيرين: وضع النص في سياقه المعرفي والتاريخي، ثم استخلاص الخطاب الحضاري والربط بينه وبين الدرس المعاصر. بهذين تكتمل منظومة الدرس التراثي، ويتحقق"التجديد". ولا يزال المخطوط العربي حقلاً بكراً، وميداناً خصباً، ليس على مستوى درسه فحسب، ولكن حتى على مستوى تحديد مفهومه، وإدراك خصائصه، واستيعاب أبعاده. ولا أدلَّ على هذا الذي نقول من أن النظرة إليه بعد قرون من الاهتمام به تنحصر في أنه"نص"أو مادة علمية تنتمي إلى حقل أو حقول معرفية محدَّدة. ولا شك في أن هذه النظرة قاصرة تسقط من حسابها العناصر الأخرى التي لا تقل أهمية عنه. وإذا كان"النص"الذي هو تحت العين وفي دائرة الضوء لم يحظ بالاهتمام اللازم والدرس الكافي، فإن لنا أن نتخيل مدى ما تعاني منه العناصر الأخرى التي هي غائبة أساساً. للمخطوط - إذاً - ثلاثة أنواع من القيم: - قيمة أثرية، ترتبط به بوصفه جسماً أو وعاءً ماديّاً. - قيمة معرفية، ترتبط به بوصفه نصّاً ينقل لنا علماً أو معرفة أو فكراً. - قيمة وثائقية تاريخية، أو حضارية، ترتبط بخوارج النص، ولا تنفصل عن القيمتين الأخريين. الحدود واضحة بين هذه القيم الثلاث، وعلى رغم ذلك، قد تلتقي وتتعاضد، وقد تتفرق وتتنابذ، ومن هنا تكون مسؤولية مَن يتصدى لمهمة تقويم المخطوط في الوعي بهذا الأمر، فيدرك بأن القيمة الأثرية المرتبطة بالتاريخ، تاريخ الزمن القِدَم أو الجغرافيا المكان أو الإنسان الشخص قد تكون خالصة، وأن القيمة المعرفية قد تنفرد في وعاء مثبوت الصلة بالقيمة الأخرى الأثرية مثلاً، وأن القيمة الوثائقية الحضارية قد توجد في كيان ليس بذي قيمة، لا من ناحية أثريته، ولا من ناحية محتواه المعرفي. مع القيمة الأثرية نستند إلى علم المخطوطات الكوديكولوجيا، ومع القيمة المعرفية يشتد الارتباط بالدرس اللغوي التاريخي للنص والدرس الفيلولوجي، ومع القيمة التاريخية نحن أمام الحراك الحضاري الذي يتمحور حول النص، وقد يفتح أمامنا نوافذ واسعة على الحراك الحضاري للعلم والإنسان في تفاعلهما، وللإنسان نفسه في علاقته مع أخيه الإنسان، ومع البيئة التي يعيش فيها. يجتمع في المخطوط إذاً عناصر ثلاثة: - عنصر الأثر، ذلك الذي يشغل الأثريين، فيلفتهم الكيان المادي: قِدَمه وصنعته وطريقة تركيبه. - وعنصر النص الذي يعنى به الباحثون والمتخصصون في مجالات العلم المختلفة، كما يعنى به اللغويون. - وعنصر الخوارج الذي يهتم به المحققون أو الفيلولوجيون، والمؤرخون. ويحتاج مُقَيّوم المخطوط إلى ثقافة مركَّبة، ويمكن أن نقيس على عبارة ابن قتيبة"الأدب: الأخذ من كل فن بطرف"فنقول: التقويم"تقويم المخطوط:"الأخذ من كل معرفة بطرف"، والمعرفة المرادة هي المعرفة بالتراث العربي الذي ينتمي إليه المخطوط، كما هي المعرفة الحديثة المتعلقة بالدرس الكيميائي الفيزيائي وبخاصة في تقويم الجانب الأثري. هذه الثقافة هي ثقافة الذي يتعامل مع المخطوط، لكن امتلاك هذه الثقافة لا يعني عدم الحاجة إلى التخصص الدقيق في كل جانب من جوانب المخطوط، ولذلك فإن عملية التقويم كثيراً ما تستلزم العمل الجماعي، عمل الفريق، حتى تتم بصورة ناجحة. وإلى الثقافة والتخصص لا بد من الخبرة، وهي لا تتحصل في عالم المخطوط إلا من المعاينة والمفاتشة وكثرة النظر في المخطوطات. ولا بد من أن يترافق مع الثقافة والتخصص والخبرة الحذر، فالمقيم شأنه شأن الناقد الذي يستصحب الشك، الشك في الجسم، وفي المعلومات المقيدة بدءاً من طُرة الغلاف حتى قيد الختام أو حرد المتن. إن عمليات العبث والتزوير كانت قائمة ومعروفة عبر التاريخ، وقد أشارت إليها المصادر، ووصفتها وذكرت مَن كانوا يقومون بها، وهي اليوم تجري، لتحقيق الأغراض القديمة التي كانت تجري من أجلها، فإذا لم نكن على حذر اختلت عملية التقويم، وترتبت على ذلك أحكام علمية وتاريخية غير صحيحة. إضافة إلى أمور أخرى تتصل بتقدير القيمة المادية. * مدير معهد المخطوطات العربية في القاهرة