حان الوقت للنظر إلى"التراث"على أنه"قضية"بين قوسين، فالعمل في التراث وللتراث ليس حفظًا ولا صيانة، ولا ترميماً، ولا رصداً، ولا فهرسة، ولا تحقيقاً، ولا درساً، ولا نشراً، ولا توظيفاً، بل هو جمع ذلك كله وزيادة. ولعل الزيادة هي تتويج ذلك كله، فهذه الأعمال جميعها لا بد أن تصل بنا في النهاية إلى إحياء هذا التراث، ليس بمعنى الإحياء من الموت، ولكن بمعنى إدخاله في نسيج حياتنا العصرية وتحفيز دوره ليكون عاملاً رئيساً في بناء نهضة ذات خصوصية لا تحاكي ولا تنسخ ولا تسلخ نهضة الآخر، وفي الوقت نفسه لا تنكفئ ولا تتجمد ولا تغيب وراء عباءة الأنا في مرحلة تاريخية انقضت. هذه النظرة الشمولية أصبحت ضرورة، ولم يعد بد من العمل من أجل التراث، ولأن مساحة التراث أوسع مما نتصور، فإن العمل من أجله يحتاج إلى ضبط، و"الضبط"ضرورة لا بد منها للحفاظ على الجهد والمال من التكرار والضياع والإهدار. ويقابل الضبط الارتجال الذي يعد السمة العامة التي تصدر عنها أعمالنا الفردية والجماعية في كل أمر، في حياتنا الاعتيادية اليومية، أو في حياتنا العلمية والثقافية، سواء بسواء. ويترتب على ذلك ما يترتب. على أننا إذا أمكننا أن نتجاوز أو نغض الطرف عن هذا الارتجال في التفصيلات الصغيرة والهامشية، فإننا لا نستطيع ذلك إذا ما تعلق الأمر بقضايانا الجوهرية والأساسية، ومنها قضايا العلم والمعرفة، وفي القلب"التراث"، وفي قلب التراث ذلك الجزء الذي ما زال مخطوطًا، فلا يمكن أن نتصور عملاً أو تعاملاً مع"المخطوط"دون ضبط، والضبط هنا بمعنى الفهم لهذا الكائن التاريخي الطويل العمر الذي تجاوزت حياته خمسة عشر قرنًا، فاغتربنا عنه، واغترب عنا. وإذا ما حاولت أن تتخلص من هذا الاغتراب بكل ما تحمله الكلمة من ظلال وإيحاءات، فإن عليك أن تقارب هذا العالم، عالم المخطوط المجهول، والخطوة الأولى تكون بامتلاك القدرة على ولوجه، والوقوف على أنجع الوسائل التي تستخرج ما فيه، وتستثمره، وتفيد منه. ولا قدرة ولا وقوف إلا عن طريق سبر هذا العالم. السبر أو التقييم في المطلق عملية صعبة، ذلك أنه يتطلب أن تعرف أو تتعرف الى الشيء محل التقييم: طبيعته وتركيبه وظروفه والأدوات التي تلائمه. والتقييم أعلى وأكثر تعقيداً عندما يكون متعلقًا بالمعرفة والعلم، لأنه ينصرف إلى أخطر ما في الإنسان وأشده تركيباً، نعني الفكر، ناهيك بأن يكون هذا الفكر ذا خصوصية ولغة وظروف متفردة، نعني التراث، الذي يتمثل أكثر ما يتمثل عندما يكون لا يزال في وعائه الأول أو الأصلي، المخطوط. إن خصوصية المخطوط تستلزم بالضرورة خصوصية عملية التقييم ذاتها، إضافة إلى أدواتها ولغتها وطرائقها. تقدير القيمة على أننا ينبغي أن نلفت إلى أن التقييم يعني - بتركيز شديد - تقديرَ القيمة. وليس التقدير المراد هنا بمعنى إعطاء المخطوط القدر أو القيمة أو التعظيم، فالتقدير بهذا المعنى إنما يصح بوصفه موقفاً مبدئيّاً من التراث في مجمله، أما إذا ما انتقلنا إلى واقع التراث، بمعنى مواجهة مفرداته، أي كل مخطوط على حدة، فإن التقدير يصبح بمعنى وزنه ومعرفة قدره من جهات مختلفة، وقد ترتفع القيمة بالجملة كلية، وقد تتوسط، وقد تنخفض أو تتدنى من جهة ثالثة. والحكم في ذلك إنما هو في الأسس التي تقوم عليها عملية التقييم في ذاتها. وقبل التعرض لهذه الأسس، نتوقف قليلاً عند مفهوم المخطوط وبنيته. المفهوم هو باختصار شديد: كتاب الأمس، كتاب الماضي، على أن هناك فارقًا مهمّاً بين هذا الكتاب والكتاب اليوم، يتجلى في أن المخطوط ليس منه نُسَخ، أعني أن كل نسخة لها قيمتها الخاصة التي تجعل منها بصمة لا تتكرر، أما الكتاب اليوم، فإن المطبعة قد تقذف من عنوان واحد ألفًا أو عشرات الآلاف من النسخ لا مزية لإحداها على الأخرى، إذ إنها جميعها نسخة واحدة. ومن هنا تأتي أهمية جمع نسخ المخطوط الكتاب القديم الواحد، للوصول من خلالها إلى النص الأصل الذي كتبه المؤلِّف، وذلك عبر الدرس التاريخي والفيلولوجي لهذا النص. أما البنية، بنية المخطوط، فهي مركّبة، ويحسن أولاً أن نقوم بتفكيكها. وبتحليل بنية المخطوط العربي، يتبين أنها تتألف من ثلاثة مكونات: - الجسم، أو الكيان المادي. - النص، أو المحتوى المعرفي. - خوارج النص، أو التاريخ التوثيقي والاجتماعي للمكونين السابقين. أما الكيان المادي، فهو الذي يجعل من المخطوط أثراً، مفرداته الأساسية: الورق والحبر والتجليد، وربما الخط، وتحت كل مفردة من هذه المفردات تفصيلات يجمعها في الدرس عنوان واحد: صناعة المخطوط. أما الخوارج، فهي كل ما عدا النص، مما نجده على الغلاف وفي الحواشي - أو الهوامش - وفي الصفحة الأخيرة التي ينتهي فيها النص، حيث قيد الختام، أو حرد المتن، وربما في صفحات تالية. في الغرب يَجمعون الدراسات التي تتصل بالكيان المادي والخوارج تحت عنوان علم واحد هو ما يسمونه: الكوديكولوجيا، أو علم المخطوطات. ولا بد من تأكيد أن"للخوارج"قيمة عالية، فعن طريقها يتم توثيق"النص"، أي معرفة عنوان واسم مؤلِّفه وحراكه التاريخي والعلمي: مَن كتبه، ومتى كُتب، مَن قرأه، ومَن سمعه، وما هي الأيدي التي تداولته، ومَن امتلكه، أو باعه، أو وَقَفَه، وما هي الأماكن التي شهدت ميلاده وتنقلاته... وأمور أخرى كثيرة لها دلالاتها التوثيقية والتاريخية والحضارية. عمليات النص ويتبقى"النص"، ذلك العمل العلمي الذي يمثل فكر صاحبه المؤلِّف، وهو الذي يحظى باهتمام المشتغلين بالمخطوط، وعليه تقوم ما يمكن تسميتها عمليات النص، أي الفهرسة، والتحقيق، والنشر. الفهرسة تعريف، والتحقيق ضبط وتوثيق وتعليق، والنشر معروف. ولا شك في أن هذه العمليات كلها دوران في فلك النص، وعلى الرغم من أهميتها فإنها لا بد أن تتوج ب"التوظيف"، الذي يقوم على أمرين خطيرين: وضع النص في سياقه المعرفي والتاريخي، ثم استخلاص الخطاب الحضاري والربط بينه وبين الدرس المعاصر. بهذين تكتمل منظومة الدرس التراثي، ويتحقق"التجديد". ولا يزال المخطوط العربي حقلاً بكراً، وميداناً خصباً، ليس على مستوى درسه فحسب، ولكن حتى على مستوى تحديد مفهومه، وإدراك خصائصه، واستيعاب أبعاده. ولا أدلَّ على هذا الذي نقول من أن النظرة إليه بعد قرون من الاهتمام به تنحصر في أنه"نص"، أو مادة علمية تنتمي إلى حقل أو حقول معرفية محدَّدة. ولا شك في أن هذه النظرة قاصرة، تُسقط من حسابها العناصر الأخرى التي لا تقل أهمية عنه. وإذا كان"النص"الذي هو تحت العين وفي دائرة الضوء لم يحظ بالاهتمام اللازم والدرس الكافي، فإن لنا أن نتخيل مدى ما تعاني منه العناصر الأخرى التي هي غائبة أساساً. للمخطوط -إذن- ثلاثة أنواع من القيم: - قيمة أثرية، ترتبط به بوصفه جسماً أو وعاءً ماديّاً. - قيمة معرفية، ترتبط به بوصفه نصّاً ينقل لنا علماً أو معرفة أو فكراً. - قيمة وثائقية وتاريخية، أو حضارية، ترتبط بخوارج النص، ولا تنفصل عن القيمتين الأخريين. الحدود واضحة بين هذه القيم الثلاث، وعلى الرغم من ذلك، قد تلتقي وتتعاضد، وقد تتفرق وتتنابذ، ومن هنا تكون مسؤولية مَن يتصدى لمهمة تقييم المخطوط في الوعي بهذا الأمر، فيدرك أن القيمة الأثرية المرتبطة بالتاريخ، تاريخ الزمن القدم أو الجغرافيا المكان أو الإنسان الشخص قد تكون خالصة، وأن القيمة المعرفية قد تنفرد في وعاء مبتوت الصلة بالقيمة الأخرى الأثرية مثلاً، وأن القيمة الوثائقية الحضارية قد توجد في كيان ليس بذي قيمة، لا من ناحية أثريته، ولا من ناحية محتواه المعرفي. مع القيمة الأثرية نستند إلى علم المخطوطات الكوديكولوجيا، ومع القيمة المعرفية يشتد الارتباط بالدرس اللغوي التاريخي للنص والدرس الفيلولوجي، ومع القيمة التاريخية نحن أمام الحراك الحضاري الذي يتمحور حول النص، وقد يفتح أمامنا نوافذ واسعة على الحراك الحضاري للعلم والإنسان في تفاعلهما، وللإنسان نفسه في علاقته مع أخيه الإنسان، ومع البيئة التي يعيش فيها. يجتمع في المخطوط -كما سلف- عناصر ثلاثة: عنصر الأثر، ذلك الذي يشغل الأثريين فيلفتهم إلى الكيان المادي: قدمه، صنعته وطريقة تركيبه. عنصر النص، ويعنى به الباحثون والمتخصصون في مجالات العلم المختلفة، كما يعنى به اللغويون. وعنصر الخوارج، ويهتم به المحققون والفيلولوجيون والمؤرخون. ثقافة مركّبة ويحتاج مقيِّم المخطوط إلى ثقافة مركَّبة، ويمكن أن نقيس على عبارة ابن قتيبة"الأدب: الأخذ من كل فن بطرف"، فنقول عن التقييم:"تقييم المخطوط: الأخذ من كل معرفة بطرف"، والمعرفة المرادة هي المعرفة بالتراث العربي الذي ينتمي إليه المخطوط، كما هي المعرفة الحديثة المتعلقة بالدرس الكيميائي الفيزيائي، وبخاصة في تقييم الجانب الأثري. هذه الثقافة هي ثقافة الذي يتعامل مع المخطوط، لكن امتلاك هذه الثقافة لا يعني عدم الحاجة إلى التخصص الدقيق في كل جانب من جوانب المخطوط، ولذلك فإن عملية التقييم كثيراً ما تستلزم العمل الجماعي، عمل الفريق، كي تتم بصورة ناجحة. وإلى الثقافة والتخصص لا بد من الخبرة، وهي لا تتحصل في عالم المخطوط إلا من المعاينة والمفاتشة وكثرة النظر في المخطوطات. ولا بد أن يترافق الحذرُ مع الثقافة والتخصص والخبرة، فالمقيِّم شأنه شأن الناقد، لا بد أن يستصحب الشك، من الجسم حتى المعلومات المقيدة، بدءاً من طرة الغلاف حتى قيد الختام أو حرد المتن. إن عمليات العبث والتزوير كانت قائمة ومعروفة عبر التاريخ، وقد أشارت إليها المصادر ووصفتها، وذكرت مَن كانوا يقومون بها، وهي اليوم تجري لتحقيق الأغراض القديمة التي كانت تجري من أجلها، فإذا لم نكن على حذر اختلت عملية التقييم، وترتبت على ذلك أحكام علمية وتاريخية غير صحيحة. إضافة إلى أمور أخرى تتصل بتقدير القيمة المادية.