منذ اندلاع تظاهرات واحتجاجات ميدان"تقسيم"في أواخر أيار مايو الماضي، دأب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على اتهام مروحة واسعة من القوى والعناصر، الداخلية والخارجية، بالوقوف وراءها، ومحاولاً إقناع مناصريه بوجود مؤامرة خارجية تقف خلفها، منافساً إن لم نقل متفوقاً لكثير من العرب، حكاماً ومحكومين، نخبة وعامة، في تبني نظرية"المؤامرة". ففي رسائله أمام مليونية إسطنبول ونصف مليونية أنقرة، اتهم أردوغان مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية الغربية بالتخطيط لتفجير هذه الاحتجاجات في تركيا، بالتعاون والتنسيق مع أدوات محلية لإسقاط حكومة"العدالة والتنمية"وإبعادها عن السلطة. كما أشار أردوغان إلى مسؤولية"لوبي مالي"، أو من وصفهم بأعضاء"لوبي البنوك الربوية"، الذين اتهمهم أردوغان علناً في خطاباته بالوقوف وراء تأجيج التظاهرات، كما اتهمهم باستغلال تظاهرة بدأت في شكل مشروع ليحولوها إلى تأليب للشعب ضد الحكومة، وإيجاد حال من الفوضى في البلاد، وليهددوا سوق الأوراق المالية في تركيا عبر المضاربة، ورفع أسعار الفائدة". ولم يبخل أردوغان باتهاماته على الصحافة الدولية، التي تفسح، من وجهة نظره، المجال لتغطية واسعة لتظاهرات"تقسيم"لزعزعة استقرار تركيا، وأخيراً، وليس آخراً، اتهامه مساء 17 تموز يوليو الجاري"قوى إقليمية ودولية لخلق فتنة بين الشعب التركي بمكوناته السنّية والعلوية، بهدف جر البلاد إلى دوامة من العنف لقطع الطريق على استكمال النهضة التي تعيشها تركيا في الوقت الحالي". ولم يقف أردوغان في تبني نظرية المؤامرة على حدود ما يحصل في تركيا، بل تعداها إلى ما حدث ويحدث من تطورات داخل مصر. فعقب إطاحة الرئيس المصري محمد مرسي في 30 حزيران يونيو الماضي، اتهم قوى خارجية بالوقوف وراء"الانقلاب"على مرسي، قائلاً إن"المحرك في أحداث ميدان"تقسيم"في تركيا، وفي"الانقلاب"على مرسي هو واحد، ولن أعلن عنه الآن، ولكن سيأتي يوم أعلن عنه وهو مكتوب في مفكرتي". في الواقع، تصمد التفسيرات التآمرية، وتلقى قبولاً لدى كثيرين، حتى من النخبة، لأنها توحي بتبريرات تبدو أكثر أماناً أو أكثر قبولاً من الناحية النفسية، وهي، في أحايين كثيرة، تعزو الشرور التي تصيب الإنسان إلى أعدائه الطبيعيين، أو تُظهر كيفية توافق بعض الأحداث المروّعة، مع رؤية، مقررة سلفاً، لكيفية عمل العالم. وعندما يتعلق الأمر بتلفيق تفسيرات تآمرية، يبدو أن الذهن البشري لا يحدّه شيء، وهذا لا ينفي بالقطع أن هناك آخرين يتآمرون بالفعل. فإذا كان من الخطأ تصور أن التاريخ كله مؤامرة، كما يقول محمد حسنين هيكل، فإن الأكثر تورطاً في الخطأ تصور أن بعض حوادثه تطرأ مصادفة. فالتاريخ، كما يقول برهان غليون، لم يتحول بعد من تاريخ صراع بين الجماعات والشعوب على السيطرة والنفوذ إلى تاريخ محبة وعناق بين شعوب من الملائكة الأطهار لا يفكرون إلا بالمصالح المشتركة وبتعميم الخير على الجميع. تاريخياً، تمثل نظرية المؤامرة حضوراً قوياً في الثقافة والسياسة التركيتين، بخاصة لدى النخبة السياسية التي تعتبر أن أزمات السياسة العامة تعود في معظمها إلى عوامل التدخل الخارجي، إذ نشأت تركيا تحت ضغوط أمنية، وهي لا تزال ? مثل دول كثيرة - تحتفظ بعُقد نشأتها الأولى، الأمر الذي يحيط السياسة والسلطة والذهنية العامة بمقدار كبير نسبياً من الهواجس والشعور الضاغط بوجود مشروع وشيك لتقسيم البلاد، أو نيات أو مؤامرات ضدها، وهذا يفسر هيمنة التصورات والسياسات الأمنية خلال تاريخ تركيا المعاصر. لقد رأت تركيا نفسها محاطة بالأعداء، وهنا يقول المثل التركي:"ليس للأتراك أصدقاء غير الأتراك". لقد نشأت السياسة التركية وفق رؤية هوبزية من أن"الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، أي سياسات الخوف وليس سياسات القوة، وكيف أن الخوف يمثل دافعاً للحصول على الأمن وليس القوة"لقد أدمجت"الكمالية"بين التهديدات الخارجية والمخاوف الداخلية في أيديولوجية واحدة تنطوي على رؤية استبدادية في الداخل من أجل"حراسة"الأمة ضد أعداء الداخل والخارج. فالشعور بالتهديد والتآمر الخارجي والداخلي، يزيد من الشعور التضامني والعصبية الوطنية في مواجهة التحديات الخارجية"كما يُساعد في"تغطية"الفشل في حل المشكلات الداخلية التي تواجه المجتمع والدولة التركيين، خصوصاً أن استمرار التوترات والمخاوف الأمنية ينعكس سلباً على السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، ويبرر السياسات الأمنية والتسلطية والتحكم بالمجتمع والدولة. وكان من تداعيات ذلك تفسير كل فشل أو عجز في السياسة التركية ب"تآمر"أطراف في الداخل أو الخارج، وهنا تصبح المؤامرة مدخلاً تفسيرياً وإجراءً سلوكياً، أو عملياً، لتصدير الأزمات الداخلية، وتحميل الآخر/الخارج مسؤوليتها مباشرة أو غير مباشرة، عبر طرف داخلي. * كاتب مصري