شبه أحد المعلقين أحد تطورات العلاقة بين الصينوالولاياتالمتحدة ب"رقصة السالسا"Salsa، وبخاصة في حركة من حركاتها حين يلف الراقص حول شريكته فيما يقترب من نصف دائرة. لفت نظري أن طرفي العلاقة، وأقصد الصين وأميركا، قررا على وجه السرعة عدم الانتظار حتى الخريف ليلتقي رئيساهما وأن يتم اللقاء في أقرب وقت وفي أي مكان، متنازلين عن وجاهة الزيارات الرسمية وبروتوكولاتها. وبالفعل جرى اللقاء في منتجع صحراوي قريب من مدينة بالم سبرنغز بولاية كاليفورنيا. ماذا حدث خلال الشهور القليلة الأخيرة ليعجل بلقاء القمة الصينية الأميركية؟ تعددت التفسيرات وأعتقد أن معظمها يبدو منطقياً ومعقولاً وإن كنت أميل إلى تفسير بعينه أكثر من غيره. فالمتابع المدقق لحركة السياسة الخارجية الصينية منذ تولي تشي جين بينغ رئاسة الدولة في الصين في أوائل هذا العام، وربما قبل ذلك بقليل، أي منذ تولي رئاسة الحزب الشيوعي الصيني في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، يلاحظ أن الصين تنفذ بدقة وجسارة سياسة جديدة هدفها الرد على استراتيجية أميركا الجديدة التي نقلت بؤرة الاهتمام والتركيز من أوروبا إلى شرق آسيا واشتهرت تحت عنوان Pivot. لقد رأت الصين في استراتيجية واشنطن الجديدة محاولة من جانب الولاياتالمتحدة لتفرض نفسها قوة إقليمية في آسيا، الأمر الذي ما كان يمكن أن تقبل به الصين أو تتغاضى عنه لسبب بسيط، وهو أن هذه الاستراتيجية تحمل في طياتها وفلسفتها معنى إصرار أميركا على مواصلة أن تلعب دور القطب الأوحد المهيمن في العالم، وبمعنى أكثر تحديداً، القطب الساعي إلى تقييد حرية الصين في الحركة وفرض طوق حولها. لذلك كان لا بد أن ترد الصين، وبسرعة، ليس فقط لإحباط أحلام أميركا في استمرار الهيمنة المنفردة، ولكن أيضاً لإثبات حق الصين في الصعود إلى القيادة الدولية كشريك للولايات المتحدة بصلاحيات كاملة وإرادة قوية. كان واضحاً أن رسائل متعددة بعثت بها الصين جعلت واشنطن تتنبه إلى أهمية الاستجابة لردود الفعل الصينية فتسرع باقتراح تقديم موعد القمة الصينية الأميركية. إحدى هذه الرسائل أخذت شكل بدء بكين في استخدام مصطلح G2، في الخطاب السياسي الصيني. وهو المصطلح الذي شاعت سيرته بين أساتذة العلاقات الدولية الأميركية، ويعني قيادة دولية جديدة تتألف من قطبين أعظم هما الولاياتالمتحدةوالصين. كانت حجة الصين في رفض استخدام هذا المصطلح في السابق هي أن الصين لا تقبل أن تبدو أمام دول وشعوب العالم الثالث دولة مهيمنة أو شريكة في نظام هيمنة. لذلك كانت مفاجأة أن يصدر عن بكين ما يوحي بأن الصين ستطلب من الولاياتالمتحدة التفكير المشترك معها لصياغة"نمط جديد للعلاقة بين الدول العظمى". وبدأت الصحف الصينية بالفعل تتداول هذه العبارة، وكان واضحاً خلال القمة أن أحد الصحافيين الصينيين المرافقين للرئيس كان مكلفاً بأن يوجه سؤالاً مباشراً للرئيسين حول المقصود بعبارة"وضع قواعد جديدة للعلاقة بين الكبار". أتصور أن الأميركيين فهموا الرسالة على النحو الدقيق، وهو أن الصين قررت أن تتنقل من سياسات تأجيل التعامل مع الأمر الواقع الجديد على أمل تحسين هذا الواقع لمصلحتها، إلى سياسات تعترف بهذا الواقع وتعمل على أساسه مع البدء فوراً في تعظيم أسس ومصادر القوة الصينية. نذكر كيف حاولت القيادة السياسية الصينية على مدى ثلاثين عاماً أو أكثر التمسك بتوجيهات الرئيس دينغ هسياو بينغ، وبالأخص التوجيه الخاص بضرورة تفادي المواجهة مع الغرب وارتداء مسحة التواضع في التعامل مع القوى الكبرى إلى حين تتحقق للصين أسباب المتعة والقوة. المعنى الواضح للرسائل الصينية المتعددة التي أرسلت إلى القيادة الأميركية هو أن الصين من الآن فصاعدا ستتوقف عن أسلوب الرد على الشكاوى والمطالب والاحتجاجات والضغوط الأميركية بتنازلات أو اعتذارات، وإنما ستتعامل معها معاملة الند للند والعين بالعين. انتهت مرحلة الالتزام بوصايا الزعيم دينغ في شأن التعامل مع الولاياتالمتحدة. هكذا بالفعل جرت في أميركا ترجمة الرسالة الثانية التي بعثت بها الصين للولايات المتحدة، إذ لم تكن قد مضت ايام على تولي الرئيس تشي منصبه إلا وانطلق يزور روسيا ومن بعدها إفريقيا، وبعث رئيس وزرائه يزور الهند وباكستان وسويسرا وألمانيا، وأعد العدة لرحلة ذات مغزى يدور فيها على المكسيك وترينيداد وكوستاريكا عارضاً قروضاً سهلة بقيمة ثلاثة بلايين دولار على حكام دول الكاريبي الذين هرعوا للقائه. أراد الرئيس الصيني أن يقول للعالم عامة وأميركا خاصة إنه إذا كانت واشنطن تريد أن تلتف حول الصين لإقامة مواقع نفوذ في إقليم شرق آسيا، فالصين أيضا تنوي أن تلتف حول أميركا لإقامة مواقع نفوذ في العالم الجديد، أي في الأميركتين. لا تملك قيادة في أميركا أن تتجاهل رسالة بهذا المعنى تأتي من الصين أو من أي دولة أخرى في أي مرحلة تاريخية، خصوصاً إذا جاءت الرسالة مرفقة بحقيقتين على قدر كبير من الأهمية، تتعلق الأولى بصعود الصين السريع نحو القمة الدولية، إذ تشير مؤشرات المؤسسات الدولية إلى أنه في عام 2016، أي في العام الأخير لولاية الرئيس أوباما الثانية، سوف يشهد العالم تقلد الصين مكانة الاقتصاد الأكبر في العالم. لا يقلل من أهمية هذا المؤشر أن مجلة"الايكونوميست"البريطانية تؤجل المشهد عامين، أي إلى العام 2018. أما الحقيقة الثانية، وهي مشتقة من الحقيقة الأولى، فتكشف عن أن العملاقين تقاربا إلى درجة غير مسبوقة. يكتب الخبراء الأميركيون في شؤون الصين، عن أن أجزاء شاسعة في الصين صارت مثل أميركا ولا تختلف عنها إلا في القليل، ومنها المدن الحديثة ونظم التعليم والإدارة، وأن قطاعات في أميركا صارت مثل الصين، وبخاصة الفجوة في الدخول ومواقع الفقر والبنية التحتية المنهكة. بشكل أو بآخر يكاد الصعود الصيني يتوازن مع الانحدار الأميركي، وبشكل أو بآخر، تكاد المشكلات الاجتماعية تتشابه وتهدد الاستقرار السياسي في الدولتين. يلخص هذه الصورة تصريح الرئيس الأميركي الذي انتقد فيه الصين قائلاً إن الرخاء من دون ديموقراطية نوع آخر من الفقر، وجاء الرد عليه فورياً وذكياً"بأن ديموقراطية من دون رخاء نوع آخر من الفاشية". الطرفان، فيما أعتقد، توصلا إلى أن الفرصة سانحة لبدء الاستعدادات لوضع الأسس اللازمة لصياغة نظام دولي جديد. لن تكون مهمة الطرفين سهلة، وكتجربة لا سابق لها، ستصادفها العراقيل في كل منحنى وكل محطة. أستطيع أن أفهم موقف الصين الرافض كلية لأي ممارسة أميركية لفرض أسس، قد تبدو مختلفة في الشكل ولكنها في حقيقتها نسخة طبق الأصل من القواعد التي وضعتها أميركا قبل سبعين عاما كأساس لنظام الهيمنة الذي فرضته على العالم. تريد الصين بل وتصر على أن تشارك في وضع قواعد النظام الدولي الجديد، ولن تترك للولايات المتحدة الفرصة لتعيد ما فعلته بعد الحرب العالمية الثانية وظل مفروضاً على دول العالم إلى اليوم. ومن أجل تنفيذ هذا الهدف بدأت القيادة الصينية تتحرك على كافة الأصعدة إلى حد"اختراق"أقاليم في الغرب كانت حكراً لأميركا، وإلى حد إعلان أنها"مستعدة لاقتسام المحيط الهادئ بينها وبين أميركا"كما جاء على لسان الرئيس الصيني نفسه، حين قال إن المحيط الهادئ يتسع لاثنين، متجاهلاً أن الصين لم تمارس في تاريخها أي دور مؤثر في سياسات المحيط الهادئ وحروبه، ومتجاهلاً في الوقت نفسه أن هناك روسيا واليابان، ولكليهما تاريخ طويل مع هذا المحيط وفيه. الجدير بالذكر هو أن القيادة السياسية الصينية كلفت أخيراً أسطول الصين بأن يناور ويتجسس ويتدرب في المياه الدولية المحيطة بجزر غوام الخاضعة لسيادة الولاياتالمتحدة الأميركية. لا شك في أننا نقف على أعتاب مرحلة من أهم مراحل التاريخ السياسي. نعيش أياما يجري فيها الإعداد بكل دقة وحذر للحظة تماس تاريخية بين قطبين، أحدهما صاعد والآخر هابط أو ثابت. إنها اللحظة التي حذر منها الفيلسوف الإغريقي ثوسيديديس اعتقاداً منه أن الحروب التي عانت منها أمم الإغريق عقوداً عديدة كان سببها"خوف أثينا من صعود إسبرطة"، وهو الخوف الذي دفعها إلى شن الحروب ضدها وفرض الحصار عليها لوقف صعودها. حول هذا الموضوع كتب غراهام اليسون الأستاذ بجامعة هارفارد يقول إنه يوجد ميل عام لدى القوى المهيمنة لمنع صعود قوى جديدة تنافسها على وضع الهيمنة، ويذكر أنه بين 15 حالة مشابهة لحالة صعود إسبرطة وانحدار أثينا، تدهورت 11 حالة منها إلى حروب دامية. يبدو واضحا لي ولغيري أن كلا القطبين، أميركا والصين، حريصان على أن لا يدخلا التاريخ تحت عنوان الحالة رقم 12. * كاتب مصري