منذ سبعينات القرن العشرين، تدنت في المجتمعات الأوروبية نسب الزواج والخصوبة، بموازاة تعاظم العقود الحرة والطلاق. وعُلِّلت هذه الظواهر البارزة والخطيرة الشأن، ب"الفردية"وتطاولها إلى الأسرة، وشَخَّصَ أصحاب التعليل المسألةَ ب: أزمة الأسرة، وانتصار الأنانية، واستتباب الأمر للفرد وسيادته. آخرون فرحوا بنهاية المثال المتسلط، وصدارة الأصالة الإنسانية، وتربُّع الإنسان القائم بنفسه في سدة العلاقات الاجتماعية. من جهتي، افترضت تعليلاً مختلفاً للظواهر المزدوجة التي درستُها، هو أن ما يقلب شؤون الأسرة رأساً على عقب ليس صدارة ال"أنا"، بل ظهور معيار مشترك بين النساء والرجال يتطاول أثره العميق إلى نسيج الآصرة، أو الرابطة الاجتماعية. هذا المعيار هو المساواة بين الجنسين، وهي كانت افتراضاً نسوياً، وكان تقريب النسوية والأسرة والجمع بينهما في ذلك الوقت ضرباً من المروق. وما أردت التنبيه إليه هو أن فهْمَ حوادث حاضرنا يقتضي النظرَ في بدايات المجتمعات الديموقراطية وفحصها، فماذا حصل يومَها؟ يومها حلَّت محلَّ عمود النَّسَب ومرتبتِه الأولى في النظام القديم، هيئةٌ جديدة هي الأسرة الزوجية القائمة على اختيار القرين اختياراً حراً، وحافظت الأسرة الزوجية على المبنى المرتبي المتفاوت والموروث من الماضي. والحق أنها بقيت تستبطن في مبناها المعيارَ الذي قامت على استبعاده ونقضه: أقرت كلَّ جزء من نظام الأسرة الطبيعي على محله ومكانته، فهو جزء من"الكل"ويساوي الأجزاء الأخرى في المكانة والشرف، على رغم تفاضل الأجزاء وعلوِّ بعضها على بعض. وعلى شاكلة الجسم، ليس ثمة إلا رأس واحد وبطن ويدان وقدمان... وكلها ضرورية لا غنى عنها، وعلى الجزء القناعة بمحله ومكانته ودوره في عمل"الكل". وانقلبت ثورة 1789 على نظام المراتب، وأرست مجتمعاً ديموقراطياً على معيارَي الحرية والمساواة، لكن هذا المجتمع حافظ على نظام المراتب الأسري والعائلي، وسوَّغ الأمر ب"طبائع"تخص الرجل والمرأة وتميّزهما الواحد من الآخر، فالرجل طُبع على رئاسة الأسرة، وطبعت المرأة على طاعته وشد أزره والسهر على البيت ورعاية الأولاد... وعلى كل طبع أن يلزم حدَّه، ويضطلع بدوره، ويكمل الدور الذي يؤديه غيره، ووفق هذا المفهوم، فإن الزواج وحده يعلي شأن المرأة ويشرِّفها ويحصنها. ويأتي في قلب النظام الأسري الحديث، الزواج القانوني بالصيغة التي أقرها تشريع نابوليون وأرسى عليها الأسرة ورابطتَها التي لا تنفصم، مبدئياً. وينص التشريع على أن الزوج يمثل نفسه وزوجَه امرأته وأولاده، ويتمتع بالقوة الزوجية على الأولاد، وبالقوة الأبوية على الآخرين. وركن الزواج هو الأبوة، أو النسب الأبوي، والأب هو"الوالد وفق عقد الزواج". والزواج هو السبيل الوحيد الى حياة جنسية يعتدّ بها، أي تلك التي تؤدي إلى نسل معلن ومشروع، والرجال كانوا في حِلٍّ من المسؤولية عن الأطفال المولودين خارج عقد الزواج، والنساء وحدهن كنَّ من يتحمل المسؤولية عن غوايتهن، وعن الأولاد المولودين من تلك الغواية. وفهمتُ في 1993 سنة نشر كتابي"ترك الزواج"، أن انقلاب أوضاع الأسرة الحاد نجم في المرتبة الأولى عن نهاية الدور المركزي الذي اضطلع به الزواج، وتولى بموجبه تعهُّدَ علاقات الرجل والمرأة ورعايتها، فالزواج في هذه الحال صار أمراً مرجعه إلى"ضمير"الزوجين وخيارهما الشخصي، وهذا انعطاف لا يقل خطورة عن سابقه قبل قرنين، حين حُمل الإيمان على الضمير والوجدان، وأرسيت المؤسسات السياسية على ركن جديد هو حقوق الإنسان. نبهتني إلى الأمر مقالةٌ كتبها الفيلسوف الأميركي ستانلي كافيل وَسَمَها ب"طلب السعادة-هوليوود وكوميديا الزواج مرة ثانية"، ربط فيها حقوق الإنسان بالمساواة بين الجنسين. ويتناول كافيل في كتابه أفلاماً كوميدية أخرجها غوكور وكابرا وهوارد هاوكس، مصدرُ طرافتها أنها لا تروي قصص محبين وعشاق ينتهي بهم الأمر بعد مشاق ومحن إلى"زواج بالرفاه والبنين"، بل هي تقص قصص أزواج مأزومين يتساءلون عما إذا كان عليهم الطلاق أم الزواج من جديد معاً. وركن"كوميديا المساواة"هو المرأة الحديثة، أو حواء الجديدة التي تطعن في المراتب، وتجلو في نهاية المطاف في صورة المرأة الصنو والمحاور، وتجلو الزواج في صورة المحادثة أو المحاورة. وتفترض هذه الصورة حيازة المرأة استقلالها الاقتصادي بواسطة عمل بأجر، وهذه مقدمات ثورة ديموقراطية ثانية... والقول إن الزواج صار على صورة المحادثة أو المحاورة يضمر افتراض الطلاق، فالمثل الأعلى ليس زواجاً يضمن بقاء الأمور على حالها إلى أبعد الأجلين، على نحو ما هي الحال في الزواج المرتبي الوثيق وعقْدِه الذي لا يقبل الفصم، فوحدهم أولئك الذين امتحنهم الخلاف أو الشقاق وتغلبوا على المحنة في مستطاعهم استمالة الوقت إلى جانبهم، وتجديد العقود بينهم، والتعويل على تواطؤ يقرِّب بينهم ويرسي علاقتهم على ما يشبه الصحبة والصداقة... ويفضي هذا إلى تعريف الزواج تعريفاً جديداً، فهو ليس شأناً شخصياً وضميرياً فحسب، بل هو كذلك شأنٌ مستقل عن الأسرة ورابطتها، فيجوز للزوجين أن يلدا الأولاد، وسلطتهما عليهم مشتركة منذ تشريع 1970 الفرنسي، وأن ينفصلا، فالزواج على قاعدة المساواة لا يضطر الزوجين إلى قبول الرباط الزوجي ما داما على قيد الحياة، والمخاطرة التي يتعرضان لها هي ترك البيت الزوجي أو مغادرته، وهو تذكير بأن الانفصال ليس فعلاً متكافئ الحدَّين أو الطرفين، ولا يستوي قطباه. وتنشأ عن الحال الجديدة، وعن الأسر ذات"الرأس"الواحدة أو المركَّبة من أولاد سابقين للقرينين، قضايا ومسائل معقدة تحول دون حمل القوانين على إحقاق الحق أخيراً. ولا تنفك رابطة الزواج تتمتع بمكانة عالية في المجتمعات الغربية، لكن هذه المكانة لم تعد ثابتة، ولم تعد للواحد أو الواحدة -متزوجاً كان أو عازباً- ضمانة مدى الحياة يطمئن إليها. وتلازَمَ هذا التغير مع تغير آخر جوهري طرأ على الأسرة، ونقل مبدأ عدم الانفصام وحكْمَه إلى رابطة النسب: فمهما تقلبت أحوال الأهل الوالدين وتفرقت مصائرهما، لم يجز أن يطرأ تغير على رابطة الولد بهما وعلى رابطتهما بالولد. وفي خضم العالم المضطرب الذي قد يخسر فيه واحدنا أعز ما كان يملك: القرين والعمل والمنزل، تبقى رابطة"البنوّة?الأبوّة-الأمومة"وحدها رابطة"مدى الحياة"ولا تنفصم بغير الوفاة. وربما لم يدرك مجتمعنا حق الإدراك مستتبعات قانون 1972، الذي نص على المساواة بين كل الأولاد، سواء المولودين من والدين متزوجَين أم غير متزوجَين، فقبل هذا القانون كانت رابطة النسب البنوي أسرية، وتنص على والد واحد وأم واحدة، لا أكثر ولا أقل، وعلى وجوب أن يولد الولد من والدين متزوجين، وأن يكون كلا الوالدين مَن وَلَد الولد من صلبه ويرعى تربيته في بيته، وأن يكونا أهلَه على المعنى الحقوقي والرمزي للنسب الأهلي. وربما انحرفت الوقائع عن المثال، فالأزواج لم يكونوا على الدوام الآباء المنجِبين، ولكن المثال كان هو المعيار والميزان وما يعتد به، ومع انصرام الطعن في شرعية الولادة وبطلانه القانوني في المجتمعات الغربية، أصبحت رابطة النسب محور قانون الأسرة. ورابطة النسب بين الأبناء والأهل أصبحت رابطة واحدة، على رغم كثرة طرائق الخصوبة والإنجاب، وقائمة على إيجاب حقوق واحدة وواجبات ونواهٍ واحدة. أما طرق إثبات هذه الرابطة، فثلاث: إما أن تثبت بواسطة الإنجاب، كما كان يحصل على الدوام، أو بواسطة التبني، أو بواسطة النسل من طريق شخص ثالث متبرع في عهدة الطب. والقانون لا يقر الصنف الثالث، ويغلِّب إلى اليوم المثال الزوجي والوالد الواحد والأم الواحدة. ويعود قانون التبني الكامل والناجز إلى 1966: فهو حمل التبني على"ولادة ثانية"خوَّلَها محْوَ الولادة الاولى وألبسها قناع الإنجاب والوضع، فيُقال إن الطفل"مولود من"والديه بالتبني! وينكر القانون الفرنسي دور الشخص الثالث في الإنجاب بالعهدة الطبية، ويقضي بإغفال اسمه. والعقد الذي يطلب الزوجان بموجبه التبرع ويوقِّعانه امام القاضي، ينبغي أن يبقى"سرياً"، فتُصطنع رابطة نسب دموية وتلصق بالقانون، وهذا ما يرى كثرةٌ من أهل القانون وشطرٌ كبير من الجمهور أنه مخالف لحقوق الطفل، فإيهام الأولاد بأنهم مولودون من أصلاب آباء عقيمين أدى إلى تفريقهم في باب خاص، بعض الاطباء يقولون انهم من"مادة تناسل من غير هوية"! وبينما فرنسا تراوح مكانَها، خطت بريطانيا وبلدان شمال أوروبا في الأعوام العشرة الأخيرة خطوات ثابتة على طريق الإقرار بهويات الأهل أصحاب نية الاستيلاد وهم وحدهم الأهل وفق التنسيب والمتبرعين والأولاد، والاعتراف بحق الأهل والأولاد في معرفة الأصول البيولوجية. وهذه المسألة، مسألة الفرق بين التنسيب الحقوقي والقانوني وبين الإنجاب"بالجسد"، هي في قلب الخلاف على قانون الزواج الفرنسي الجديد، والسبب في تظاهرات التنديد والتأييد التي تشق الفرنسيين. وموضوع الخلاف هو تعريف الزواج وعلاقات الزوجين في إطاره، وتعريف النسب على جهتي الأبوة-الأمومة/ البنوّة، فيقول بعضهم إنه لا مناص من الاختيار بين تعريف بيولوجي يفترض زوجين: ذكراً وأنثى، وبين تعريف إرادي أو تعاقدي. لكن المثال التقليدي ليس بيولوجياً، وعلى هذا الأساس ينبغي فهم تناقضات القانون الحالي في مسألة تنسيب الأولاد، فمدار هذه المسألة هو على إخراج النسب من الإطار الزوجي والأسري، ومعنى هذا المساواة بين صيغ النسب الثلاث: بواسطة الإنجاب، أو بواسطة التبني، أو بواسطة شخص ثالث وسيط. فلماذا تُنكَر على الصيغتين هاتين مساواتهما بالصيغة الأولى؟ ولماذا لا يُقَرّ لهما بالمكانة التي يستحقانها؟ والإنجاب"بالجسد"حين يوصف ب"البيولوجي"يجرَّد من الصفة الإنسانية والمعنوية التي تلازم المبادرة إلى الإنجاب، وعندما أذكِّر بهذه الصفة توجَّه إلي تهمة الرجعية. * مديرة بحوث وصاحبة تقارير في مسائل الإنجاب والزواج والنسب، عن"لكسبريس"الفرنسية، 24/4/2013، إعداد م. ن.