الشريط الذي يُظهر معارضاً سورياً يأكل قلب مقاتل عدو، والصور المروّعة لأطفال ذبحتهم قوات موالية للنظام هي حلقة من الفظاعات الدائرة في سورية. وساهم مثل هذه الكوابيس في تعاظم المخاوف ازاء تأجيج الحرب الأهلية السورية النزاع السنّي - الشيعي في الشرق الاوسط. وفاقم المخاوف هذه تزايد القتلى في العراق... واحتمال انفلات التوتر في لبنان من عقاله. ويرى كثر ان هذا النزاع المذهبي بالغ الأثر في السياسات الاقليمية، وأن سورية هي جبهة هذه الحرب الباردة المتقدمة. وتقول الباحثة جنيف عبدو، من مركز"بروكينغز"في تقرير صدر الشهر الماضي، أن النزاع السنّي - الشيعي بدأ يتربّع محل النزاع الأوسع بين المسلمين والغرب... وقد يتصدر الحياة السياسية العربية، ويحل محل القضية الفلسطينية في سلم الاولويات. قد يكون هذا التحليل في محله، لكن التعاطف العربي العميق مع القضية الفلسطينية لم يساهم في"صناعة"فعل رسمي عربي مؤثّر أو موحد. وهذه السابقة لا توحي بأن التضامن السنّي قد تنعقد ثماره، وتغفل السردية المذهبية القائلة باستشراء النزاع السني- الشيعي أبرزَ خطوط النزاع الجديد في الشرق الاوسط. فالتنافس على أشده بين السنّة أنفسهم، أي بين الساعين الى بلوغ السلطة في دول تمر في مرحلة انتقالية وبين الطامحين الى الزعامة الإقليمية العربية. ومناوأة الشيعة لا ترص صفوف السنّة ولا توحدها، وهذا ما اخفقت في بلوغه القومية العربية التي لم تفضِ الى وحدة عربية في الخمسينات من القرن العشرين. ويخلص المراقب من تقويم تجربة نزاع الأنظمة العربية في مرحلة الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، الى توقع احتدام التنافس بين الأنظمة"السنية"والحركات السياسية، على رغم رسوخ السردية المذهبية. فالهوية السنّية لم ترسِ الوحدة في مصر أو ليبيا أو تونس، ولم تكن ركناً جامعاً. والنقاش السياسي في هذه البلدان صاخب، وبروز الحركات الإسلامية، خصوصاً الحركات السلفية المعادية للشيعة، اثر الانتفاضات العربية، شحذ النزاع الطائفي في المنطقة. لكن أثره في سياسات الملة السنّية"الداخلية"فاق أثره الطائفي. وهناك خلافات حادة بين"الإخوان المسلمين"والسلفيين الذين شن حزب"النهضة"التونسي اخيراً حملة قمع عنيفة ضدهم. وزرع بروز الحكومتين الاسلاميتين في مصر وتونس، الشقاق في العالم العربي، وبدأت القوى العربية الطامحة الى زعامة إقليمية التنافس في المسارح السياسية الجديدة، ومنها ميدان الحرب في سورية. ويُطعن في دعم قطر"الاخوان المسلمين"... وتغالي السردية المذهبية في تصوير تماسك الطرف"السني"في المواجهة مع ايران. وتسوغ المغالاة هذه القمع المحلي، وتُتوسل في شد حبال القوى الاقليمي. فيسع الحكّام الطعن في مشروعية المطالب، واتهام اصحابها بخدمة ايران. ويرمي إسباغ صفة الشيعي على المحور السوري ? الايراني ? الحزب اللهي الى تقويض شعبيته من طريق تذكير الجماعات بعصبيتها المذهبية. ولو بلغ السنّة سدة السلطة في سورية، لن ترتقي دمشق حليفاً للأنظمة الاخرى العربية في المنطقة ما لم تلتقِ مصالح قادتها الجدد مع مصالح هذه الانظمة. والتنافس التقليدي بين الدول العربية انتخب سورية ساحة له. فالتنافس مستعر بين مجموعات الثوار التابعة للدول المتنازعة على الريادة الإقليمية، ويحول التنافس هذا دون رص صفوف المعارضة السورية. حال المذهبية اليوم كحالها بين عامي 2005 و2010 حين بدا ان نفوذ ايران و"حزب الله"يتوسّع. يومها حذر والي نصر من"صعود الشيعة"، وأشار العاهل الأردني الى هلال شيعي. وتوسلت ادارة جورج بوش الابن هذه المذهبية لبلوغ اهداف سياسية و"احتواء"ايران، وتقويض نفوذ"حزب الله"، وتعزيز الحلف بين أنظمة في المنطقة. وخمدت نار الغضب المذهبي نهاية 2008 على وجه التقريب، مع وقف دوران العراق في اتون الحرب الأهلية. لكن مشاعر مثل النقمة والغضب أو عوامل مثل الهويات السياسية التي صيغت في تلك المرحلة المذهبية، لم تتبدد. وكان من اليسير"إحياؤها"لحظة تعاظم النزاع السوري. في البداية رفض معظم السوريين، شأن العراقيين، المذهبية، لكن حصانتهم ازاء الانسياق وراءها ضعفت، اثر تعاظم المجازر وموجات النزوح. وتتذرع الأنظمة بفظائع حوادث سورية لتسويغ رفضها الاصلاح، وزرع الكراهية المذهبية قد يعبد الطريق امام بلوغ نخب وصولية السلطة ورسوخها فيها. ويجب ان يتصدر الأولويات سعي الى تفادي المجازر ضد الأقليات والامتناع عن تشكيل محور سنّي معتدل جديد في وجه ايران. والسبيل الى ذلك هو التوصل الى حل سياسي في سورية، ولو شابته شوائب، ووقف الانحدار في دوامة العنف. * باحث وأستاذ جامعي، عن"فورين بوليسي"الأميركية، 23/5/2013، إعداد م.ن.