كلما فكّرتُ بسورية، أفكّرُ أولاً بالناس، بالأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء. طبعاً أهتم للعمران والآثار وبصمات الزمان في المكان وأثر التاريخ في الجغرافيا، لكنني أفكر أولاً بالناس، بالأمهات والأباء، بالبنات والأبناء، بالواجفين الراجفين من هول الموت وكثرة الدماء، بالأطفال الذين يذهبون صباحاً الى مدارسهم، ولا مَن يدري كيف يعودون، بطلاب الجامعات الذين امتزج حبرهم بدمائهم، بالمنتظرين على أبواب المخابز لأجل لقمة مجبولة بالخوف والجزع... لقد رأينا هذا المشهد من قبل، بل عشناه. هنا في لبنان دارت حروب ومحن، مات أناس وعاش آخرون، وبعضهم جعل الدماء سُلّماً للصعود نحو ما يظنه أعلى. بلى، عشنا هذا الخراب وذقنا علقم مراراته. مرات كان انتظار الموت أصعب من وقوعه، وسماع أزيز الرصاص ودوي القذائف أقسى من انفجارها. يقول علي بن أبي طالب"إذا هبتَ أمراً فقعْ فيه"، لقد وقعنا في الكثير، عشنا ومتنا مراراً، رأينا الموت الأحمر والأسود والمتعدد الألوان، بعضنا تعلّم من التجربة وبعضنا يرغب بتكرارها! مَن منا كان يخال سورية على هذا النحو؟ أفكّرُ بأصدقائي الذين أعرفهم والذين لم أعرفهم، الذين شاهدوني بحكم المهنة ولم أشاهدهم، الذين قرأوني بحكم الكتابة ولم أقرأهم، أفكر بأحلامهم الصغيرة: صرخة وليد جديد، النجاح في نهاية السنة الدراسية، عودة مهاجر من سفر طويل، التخرج في الجامعة، الحصول على وظيفة أو فرصة عمل، فستان عرس أو بدلة زفاف، تذكرة طائرة، تأشيرة هجرة أو سياحة، الفوز بمباراة كرة قدم، سهرة هادئة في حانة ليلية أو في ليل البادية، بكل التفاصيل التي نظّنها تحصيلاً حاصلاً، ثم ندرك مدى قيمتها حين نُحرَمُ منها. أفكّر بالذين يفكّرون مثلنا، يخافون على أطفالهم مثلما نخاف على أطفالنا، على أحلامهم ومستقبل أبنائهم. أتساءل مثل كثيرين لماذا جرى كل الذي يجري؟ ما الجدوى بعد الآن؟ كم عروساً أجلت زفافها، كم تلميذاً لم يكمل سنته الدراسية، كم شاباً خسر سنته الجامعية، كم أمرأة حاملاً أجهضت جنيناً وحلماً بسماع كلمة: ماما... وقبل كل هذا، ماذا عن الذين ماتوا، أو فُقدوا؟ مَن يرد الحياة غير باريها، مَن يعوّض الأعمار المقصوفة في ريعان شبابها، مَن يُرجعُ رمقاً أو نَفَساً أو نفْساً؟ تباً للسياسة، تباً للدول ومصالحها، تباً للعبة الأمم. كل هذا لا يساوي ضحكة طفل توقفت قبل أوانها، لا يعادل دمعة أم استبدلت منديلها الناصع بثوب الحداد. تباً للسياسة، نعم تباً لها حتى لو كانت اللعنات لا تغير حرفاً في ما كُتبَ في كواليس الأمم ومصالح الأقوياء، لكننا بين هذا وذاك لن ننحاز لأحد غير الناس، وحقهم في الحياة الحرة الكريمة والعدالة الاجتماعية والمساواة، بعيداً من كل هذا القتل الدائر تارة باسم السماء وطوراً باسم أوليائها على الأرض. يا الله، لقد اخترتَ هذي البلاد مهبطاً لرسلك وأنبيائك رحمةً للعالمين. فكيف صاروا ذريعة للنزاعات والقتل والقتال، ومَن حولّهم زوراً وبهتاناً رايات حروب لا تبقي ولا تُذر. العفو من كل طفل جمّد الخوف نظراته البريئة ويبّس أطرافه الحالمة بطائرة ورقية ملونة لا بنفاثة فولاذية عمياء، العفو من كل أُمّ صارت بسمتها دمعة ودعاؤها صراخاً مكلوماً. يا الله"كيف تصلُح الوردة ذاتها للحب والجنائز، للحياة والردى، لميلاد الجلادين وأضرحة الشهداء؟"، ما الذي يستطيعه شاعر اختار الكلمات بدل الطلقات، ما الذي تستطيعه عبارات مخنوقة بعبراتها، نغفو على الموت ونصحو، ونظل نحلم بأيام أفضل لهذي البلاد المنكوبة بسفاحيها. ألاّ يحق لنا، نحن المؤمنين بوحدة حال بلاد الشام وخصوصيتها، غير المنخرطين في أجندة هذا أو ذاك، الذين جربنا المجرَب وذقنا حنظله، ألا يحق لنا انطلاقاً من كل الخراب الذي عشناه على مدى عقود ولا نزال نحصد أثاره المريعة، أن نقول: الحوار أقصر الطرق لحقن الدماء ومنع سقوط المزيد من الضحايا والدمار. فالحرب مهما طالت ودارت رحاها لن تنتهي سوى بطاولة حوار. فلماذا لا نوفر على الناس المزيد من العذابات ونذهب الى حوار حقيقي جاد وصادق وحده الكفيل بتحقيق تغيير قليل الكلفة، علماً أن الكلفة باتت غالية جداً وستحملها أجيال وأجيال قادمة. رحم الله الشهداء.