يرفق عدد من مخرجي الأفلام اعمالهم بعبارة"يستند الى احداث حقيقية"توحي بصدقية العمل وأمانته التاريخية والواقعية. لكن شريط"زيرو دارك ثيرتي"ظلام دامس في 30 دقيقة الذي يتقصى الاحداث التي ادت الى مقتل اسامة بن لادن افتُتح بعبارة متحدرة من العمل الصحافي"يستند الى المصادر الأولية عن الحوادث الفعلية". وإذ تختفي هذه العبارة، تتربع محلها شاشة سوداء يظهر عليها تاريخ"11 أيلول سبتمبر، 2001"وتُسمع تسجيلات اتصالات"حقيقية"لضحايا هجوم"القاعدة"على برجي مركز التجارة العالمية بقوات الطوارئ النجدة، ويبرز صوت متصلة تقول انها تحترق، وأنها ترفض الموت قبل ان يتبدد صوتها. فقبل ان يتلفظ أي من الممثلين بإحدى كلمات السيناريو الخيالي، يقبل"زيرو دارك ثيرتي"على خيارين: إدراج أسلوبه في سياق اعمال الصحافيين والمؤرخين، وينقل الى عالم الدراما أكبر صدمة أميركية في العقود الأخيرة لم تندمل جروحها بعد. واستُقبل عرض الشريط بسيل من النقاش والردود المتباينة. فالناقدون احتفوا بإماطته اللثام عن العنف السياسي. ورشحت دائرة"نيويورك فيلم كريتكس"الشريط لجائزة افضل صور في 2012، ورشح لخمس جوائز"أكاديمي أواوردز". لكن عدداً من الصحافيين والمسؤولين الرسميين، ومنهم 3 شيوخ سناتور أميركيين، وجّهوا سهام النقد الى"زيرو دارك ثيرتي". وأبرز دواعي الشكوى هو تضخيم دور التعذيب أو"تقنيات الاستجواب المعززة"وفق تعبير"سي آي إي"اللطيف لطفاً مرعباً، في الحصول على معلومات من متعاونين مع"القاعدة"كان لها المساهمة الأكبر في العثور على مخبأ بن لادن في أبوت آباد حيث قتل في الثاني من أيار مايو المنصرم."فالفيلم يوحي بأن الاستجواب المكثف أو المعزز... هو الذي ادى الى كشف مخبأ بن لادن"، كتب مايكل موريل، القائم بأعمال مدير"سي آي إي"، في رسالة الى العاملين في وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية. و"الانطباع هذا خاطئ وفي غير محله". ووجهت مديرة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، ديان فينشتاين والعضوان البارزان في لجنة الخدمات المسلحة، الديموقراطي كارل ليفين والجمهوري جون ماكين، رسالة تطعن بالفيلم قائلين ان ما ساقه عن تاريخ مكافحة الارهاب"ضعيف الصلة بالواقع ضعفاً فاضحاً". ورأى هؤلاء ان الفيلم قد يخلّف أثراً بارزاً لدى الرأي العام الاميركي. والأثر هذا مضلل ومقلق. وبول هو صحافي سابق قابل عدداً من مسؤولي"سي آي إي"العسكريين ومسؤولين في البيت الأبيض قبل أن يبدأ كتابة سيناريو"زيرو دارك ثيرتي". لكنه لم يكتف بهذه المقابلات وبادر الى عمليات تقصٍ خاصة به. ورد بول والمخرجة كاترين بيغلو على الطعون بالقول إن الكاتب المسرحي يجمع تاريخاً معقداً ومكثفاً في رواية سينمائية، لذا، يفترض به ان يتمتع بهامش فني يجيز له الاجتهاد. وهذا لا شك فيه، لكن المخرجين لا يسعهم زعم الجمع بين الصدقية الصحافية والابتكار الفني في آن، أي التذرع بالفن لتسويغ الاستناد الى تحقيقات رديئة حول موضوع بارز مثل دور التعذيب في انتزاع المعلومات بحثاً عن بن لادن، بالتالي تسويغ، التعذيب سياسة عامة مقبولة. بول وبيغلو كانا سباقين الى تقديم الفيلم على أنه"ضرب من العمل الصحافي". وفي فيلمها السابق"ذي هُرت لوكر"خزانة الألم، الذي فاز بأوسكار افضل صور وكان سلم بيغلو جائزة افضل مخرجة بشهادة"اكاديمي اووردز"، قدمت بيغلو قصة عن عالم الحرب المصغر، ولم تتناول سوى لماماً الموضوع الاوسع: الاجتياح الكارثي للعراق. فلم يحسب المشاهد أن الشريط هو تسجيل لوقائع تاريخية. وأولى العثرات التي تحول دون تقويم معلومات"زيرو دارك ثيرتي"هي عدم رفع السرية عن معظم سجلات"سي آي إي"عن برنامج الاستجواب، ومنها سجلات الإيهام بالغرق وغيرها من التقنيات العنيفة المستعملة بين عامي 2002 و 2006. وسجلات البحث عن بن لادن بعد هجمات أيلول لا تزال قيد الحفظ والكتمان. والوثائق التي اطلعت عليها جمعيات ومجموعة صحافيين ونقابة الحريات المدنية، اماطت اللثام عن بعض تفاصيل برنامج الاستجواب. لكن المعلومات قليلة وتشوبها فجوات كبيرة، وتضاربت آراء المسؤولين الذين اطلعوا على السجلات السرية حول دور تقنيات التعذيب القاسية. فالسناتور ديان فينشتاين، على سبيل المثل، رأت ان الايهام بالغرق وغيره من التقنيات العنيفة لم يلعبا دوراً"بارزاً"أو اساسياً في جمع القرائن التي ادت الى كشف مخبأ بن لادن. وعلى خلاف فينشتاين، قال مايكل هايدن، آخر مدير ل"سي آي إي"في عهد إدارة بوش، ان المعلومات المنتزعة من المعتقلين الذين"تعرضوا لأنواع مكثفة من الاستجواب"كانت حيوية في البحث عن بن لادن. وأبرز تحقيق مستقل حول رحلة صيد- مطاردة بن لادن، وهو موسوم ب"مانهانت"المطاردة لصاحبه الصحافي بيتر بيرغن، يغلّب كفة فينشتاين ويقلل دور التعذيب. لكن عدداً من مسؤولي الاستخبارات الاميركية الذين قابلهم بول قالوا ان المعتقلين المعذبين ادلوا بمعلومات مهمة. "زيرو دارك ثيرتي"يقول ما لم يقله أبرز المدافعين عن سياسة الاستجواب في وكالة الاستخبارات المركزية، من أمثال جوزي رودريغز جونيور، المدير السابق في قسم المهمات السرية في"سي آي إي"الذي دافع في سيرته عن التعذيب. فالشريط يزعم ان الفضل في جمع الدلائل التي قادت الى بن لادن، يعود الى"الاستجواب المعزز"، بينما يقتصر رأي المدافعين عن تقنيات التعذيب على ضرورتها في البحث عن زعيم"القاعدة". لكن شريط بيغلو يغفل ذكر معلومات هي في متناول الاميركيين. ففي"المراكز السرية"حيث يُستجوب معتقلو وكالة الاستخبارات المركزية، كان عملاء من مكتب التحقيقات الفيديرالية أ ف ب حاضرين. وهم مدربون على اساليب استجواب لا يطعن بها القضاء الاميركي، وتدريبهم يستند الى إرث الشرطة الأميركية، وليس مستقى من مكافحة الارهاب أو الحرب. لذلك اعترض عدد من عملاء"أف بي آي"على أساليب الاستجواب العنيفة، ونددوا بها معتبرين انها تجافي الأخلاق. ولا يخفى ان برنامج"الاستجواب المعزز"لم يلقَ الإجماع في الحكومة ولا في صفوف بعض ضباط"سي آي إي"الذين رأوا انه مقزز ويثير الغثيان. فعميل"اف بي آي"السابق، علي صوفان، في كتابه"ذي بلاك بانرز: القصة الداخلية للحرب على القاعدة"ينقل عن مسؤول في"سي آي إي"قوله:"اتفاق جنيف حول التعذيب واضح، ولن أغامر بالتعرض للمحاسبة من اجل هذا البرنامج"الاستجواب المعزز. ويجيب مسؤول استجواب في"سي آي إي"عن سؤال صوفان حول جدوى التعذيب قائلاً:"هذه التقنيات لا تنفع إذا أُنزلت بأشخاص يلتزمون الموت من اجل قضية... الناس من أمثالهم يتوقعون التعذيب والضرب المبرح، والاغتصاب واغتصاب افراد من عائلاتهم على مرأى منهم. فهل تحسب فعلاً ان تعرية أحدهم وحرمانه من كرسي سيحملانه على التعاون"؟ * صحافي، مدير مركز"نيو اميركا فانديشن"، عن"نيويورك ريفيو اوف بوكس"الاميركية، 7/2/2013، إعداد م. ن.