انطلقت الثورة السورية من أجل تحقيق حلم لطالما حلم السوريون به، إنه حلم الحرية في بساطتها، بيد أن ثمنها بالنسبة إليهم كان وما زال غالياً. كنا نعتقد أن أنظمة كالخمير الحمر في كمبوديا والنظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا وبينوشيه في تشيلي، كنا نعتقد أن أنظمة من هذا النوع قد انقرضت، وكنا نظن - وبعض الظن إثم - أن المجتمع الدولي تطور لدرجة لن يسمح معها بظهور نظام شبيه بتلك الأنظمة في زماننا وعصرنا. بيد أن ما تشهده سورية اليوم ويعيشه السوريون في كل لحظة يبدد كل ذلك ويجعلها مجرد أكاذيب. بعد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي جرت في يوغوسلافيا السابقة تطور النظام الدولي باتجاه ما يعرف بحماية المدنيين ومنع وقوع جرائم الإبادة قبل معالجة آثارها أو محاولة تجنبها قبل التعامل مع نتائجها بعد وقوعها، فتأسست محكمة الجنايات الدولية في عام 2002 وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ما بات يعرف بمبدأ حماية المدنيين في عام 5002 متجاوزة المبدأ التقليدي في حماية سيادة الدول وإدراكاً أنه عندما ترتكب الأنظمة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فإنها تفقد سيادتها ويصبح لزاماً على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته في اتخاذ كل التدابير الضرورية من أجل حماية المدنيين ومنع وقوع الجرائم بحقهم. للأسف فإن ما يجري في سورية قصة مختلفة، إذ ترك المجتمع الدولي السوريين كي يعيشوا الألم وحدهم، يقتلون يومياً بأنواع مختلفة من الأسلحة لا قبل لهم بها، فالقصف الجوي بالطائرات الحربية المقاتلة حصد أرواح أكثر من 02 ألف مدنياً إلى الآن، واليوم بدأ الأسد في تكثيف استخدام الصواريخ الباليستية البعيدة المدى والتي تصنف ضمن أسلحة الدمار الشامل ضد المناطق التي خرجت عن سيطرته، غير عابئ بعدد الأرواح التي يمكن أن تحصدها هذه الصواريخ وغير مكترث لحجم الدمار الذي يمكن أن تخلفه في المناطق السكنية والبنى التحتية، هذا فضلاً عن ترسانة كاملة من الأسلحة المحرمة دولياً والتي استخدمت وتستخدم يومياً بحق الشعب السوري من القنابل العنقودية والفراغية إلى الألغام الفردية والبحرية وغيرها. وبالتأكيد لم يكن الأسد ليتجرأ على استخدام كل هذه الترسانة لولا أنه لقي لا مبالاة تامة من المجتمع الدولي ومراوغة وكذباً في تغيير ألوان الخطوط الخضر والحمر، وعليه إذا ما قرر المجتمع الدولي أن يستمر في لامبالاته والأسد في جنونه في استخدام كل الترسانة العسكرية والصاروخية ضد شعبه ستكون سورية حينها قد أصبحت الجحيم بعينه. بدأ المسؤولون الغربيون والإعلام الغربي بوصف ما يجري في سورية على أنه حرب أهلية، وعلى رغم قناعتنا التامة ببعد هذا المصطلح تماماً عما يجري داخل الأراضي السورية إذ إنها ثورة شعبية ضد نظام استبدادي، إلا أننا إذا قمنا بمقارنة بسيطة لعدد الضحايا مع عددها في بلدان أخرى عاشت ظروفاً من الحرب الأهلية كالبيرو على سبيل المثال التي امتد فيها الصراع المسلح بين"الدرب المضيء"المدعومة من الأرياف وبين الأجهزة الأمنية الحكومية التي قررت القضاء على الإرهاب بما أسمته إرهاب البيئة الحاضنة فقد امتد الصراع لمدة عشرين عاماً من عام 0891 وحتى عام 0002 وكان عدد الضحايا أكثر من 07 ألفاً وفقاً لتقرير لجنة الحقيقة والمصالحة النهائي، إذا قمنا بهذه المقارنة لوجدنا أنه في أقل من عامين بلغ عدد الضحايا في سورية أكثر من 06 ألفاً أكثر من 09 في المئة منهم من المدنيين، وكانت المفوضة السامية لحقوق الإنسان ذكرت في إيجازها في مجلس الأمن أن عدد الضحايا ارتفع من ألف شهرياً مع بداية الثورة بسبب استخدام الأجهزة الأمنية المكثف لإطلاق النار على المتظاهرين السلميين إلى خمسة آلاف شهرياً بسبب استخدام النظام السوري المكثف لسلاح الطيران والأسلحة الثقيلة كراجمات الصواريخ والقنابل الفراغية والعنقودية. كل ذلك ينقلنا إلى القول أنه إذا ما سمح للأسد بالاستمرار في حربه ضد الشعب السوري فإن عدد الضحايا سيكون مرشحاً إلى أن يبلغ أكثر من 051 ألفاً بسبب التزايد الملحوظ للعنف والارتفاع الكبير في عدد المختفين قسرياً والمعتقلين الذين هم عرضة للوفاة تحت التعذيب الشديد كما نشهد على حالات مماثلة يومياً ومنذ بداية الثورة، إذ لم تكف آلة التعذيب عن حصد ضحاياها بشكل يومي في مؤشر على مدى وحشية الأجهزة الأمنية السورية واستخفافها الكامل بأرواح السوريين. هذا يعني أنه لا إمكانية لبدء عملية حقيقية من العدالة الانتقالية في سورية إذا لم تترافق مع انتهاء كامل للعنف ولآلة الدمار اليومية وبدء نوع من الاستقرار السياسي يتيح بدء عملية الانتقال السياسي نحو التعددية والديموقراطية والمصالحة بين السوريين ونهاية نظام الأسد الدكتاتوري، فكما علمتنا كل تجارب العدالة الانتقالية عبر العالم فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسار الانتقال السياسي كما أنها تعتمد بشكل رئيسي على توافر الإرادة السياسية والرؤية لدى كل اللاعبين والقوى السياسية على الأرض، وشعورها أولاً بأن الاستقرار الأمني والسياسي يتطلب إطلاق عملية العدالة الانتقالية التي يشعر الضحايا معها أن المسؤولين عن ارتكاب الجرائم بحق أبنائهم وبناتهم سيمثلون أمام العدالة وأن زمن الإفلات من العقاب والمحاسبة انتهى، ويشعر السوريون كلهم من دون استثناء أن هناك مساراً للمصالحة الوطنية يشترك فيه كل ممثليهم وقواهم بهدف ضمان التعددية الكافية والصدقية الضرورية. لا يمكن أحداً أن يتحدث باسم الضحايا أو أن ينطق اسمهم، وقضية العدالة بالنسبة إليهم لا تسامح معها ولا التفاف أو تهاون فيها، وإذا أخذنا في الاعتبار الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة السورية كمؤسسات ذات صدقية في عيون المواطنين السوريين ندرك حجم الأذى الفادح الذي لحق بالجهاز القضائي وبدوره في الحياة العامة في سورية. ومعنا اليوم عدد كبير من القضاة الذين أتوا من سورية ومارسوا عملهم حتى وقت قريب قبل انشقاقهم وتأسيسهم لما يسمى مجلس القضاء السوري الحر، وعليه فلن يكون النظام القضائي معداً أو مهيأ أو حتى قادراً على إطلاق عملية المحاسبة الضرورية التي ينشدها أهل الضحايا، وإذا أخذنا في الاعتبار الانقسام المجتمعي الحاصل في سورية اليوم بسبب الموقف من الأسد وميليشياته وتصعيد الأسد عبر التخويف أو تحريض المكونات المجتمعية السورية ضد بعضها بعضاً وآخرها تأسيس ما أطلق عليه"جيش الدفاع الوطني"الذي هو عملياً مأسسة حكومية لمليشيات الشبيحة شبه النظامية التي تدخل في إطار القانون ما يمكن تسميته بالمرتزقة إذ إن تشكيلتها ليست سورية خالصة كما تؤكد شهادات العيان والتقارير الصحافية المتزايدة وهي ستمثل تهديداً متزايداً للاستقرار ولبدء أية عملية للمحاسبة والعدالة. وهنا يأتي خيار اللجوء إلى ما يسمى العدالة الدولية، فجرائم الأسد في الحرب وجرائمه ضد الإنسانية تدخل بكل تأكيد في اختصاص محكمة الجنايات الدولية، ولكن وبسبب الموقف الروسي في مجلس الأمن الذي يمنع إحالة الجرائم المرتكبة في سورية إلى هذه المحكمة فإن أية حكومة مستقبلية تشكلها المعارضة أو تتشكل بعد سقوط نظام الأسد يمكن لها أن تصادق على اتفاق روما الأساسي الذي أنشئت بموجبه محكمة الجنايات الدولية وعندها يمكن للمدعي العام أن يفتح تحقيقاً في تلك الجرائم. إن مسار العدالة الدولية ليس بالتأكيد خياراً مثالياً إذ يتصف بالبطء الشديد في وقت يحتاج الضحايا فيه إلى التأكد من أن حقهم لن يضيع ولن يتم تجاهله في أي تسويات سياسية، لكن خيار العدالة الدولية في مجتمعات منقسمة يبقى الخيار الأفضل إذ سيرسل الرسالة إلى كل السوريين أن الانتقام ليس هو الهدف كما أنه يطمئنهم إلى أن أشد معايير العدالة والشفافية الدولية سيجري ضمانها ولن يكون الهدف استهداف طائفة بعينها أو محاسبتها وإنما تأسيس مسار للعدالة يضمن تأسيس سورية المستقبل على أسس صحيحة، وفي الوقت نفسه فإن ذلك يعطي ثقة أكبر من المجتمع الدولي بالنظام الجديد والتزامه بالعدالة والمصالحة ولا مكان لسياسات الثأر أو الانتقام ضمن برنامجه، فالسوريون سيحتاجون إلى المجتمع الدولي الذي خذلهم لإعمار بلدهم وبناء مؤسساتهم المستقبلية بكل الأحوال وبناء الثقة فيه مسألة في غاية الأهمية، لكن عليهم أن يدركوا أيضاً أن هناك حدوداً للمساعدة يمكن أن يقدمها المجتمع الدولي وأن عليهم في النهاية الاعتماد على أنفسهم في بناء ديموقراطيتهم في المستقبل. وبهدف إطلاق مسار العدالة الانتقالية في سورية تأسست اللجنة الوطنية التحضيرية للعدالة الانتقالية بعد مؤتمر"ضمانات العدالة للضحايا والمحاسبة لمرتكبي الجرائم: مسار العدالة الانتقالية في سورية"الذي نظمه المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية في إسطنبول من 26-27 كانون الثاني يناير الماضي، وشارك في هذا المؤتمر عدد كبير من ممثلي القوى السياسية وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والقضاة والمحامين الذي سيكون الاعتماد عليهم كبيراً في المرحلة المستقبلية، كما شهد المؤتمر تأسيس جمعية مدنية لعائلات شهداء الثورة بحضور ممثلي عائلات أبرز شهداء الثورة السورية الذين صنعوا بنضالهم وشهادتهم حلم السوريين الكبير في التحرر من نظام عائلة الأسد الجاثم على صدر السوريين لأكثر من أربعين عاماً، وستضع اللجنة الوطنية التحضرية للعدالة الانتقالية في سورية على عاتقها البرامج والتصورات والسياسات الضرورية الخاصة بالعدالة الانتقالية في المرحلة المستقبلية. * مدير المركز السوري للدراسات السياسية - واشنطن