بإمكاني أن أتذكّر مكان تواجدي في يوم اغتيال جون كينيدي منذ خمسين سنة، وأن أذكر هويّة أوّل شخص أطلعني على الخبر المفجع، وهو أنّ"الرئيس قد مات". أذكر أنّي كنتُ في طريقي من نيويورك إلى بوسطن حين وقعت الحادثة. وشاءت صدفة غريبة أن يكون أوّل شخص أخبرني بها هو المدير المساعد في"مركز هارفارد لدراسات الشرق الأوسط"الذي أتعاون معه منذ عام 1993. وحين أعود وأتذكّر ذلك اليوم، الذي شهدته دولة أميركية كرّست الأسبوع الماضي حيّزاً كبيراً من وقتها لإحياء ذكرى الحدث، وعلى ضوء المعلومات التي لم تتوافر للعلن في تلك الحقبة، أرى أنّه من الممكن استخراج عدد من العبر التاريخية الهامة، والإقرار بوجود أوجه شبه عدة بين تلك الحقبة والمرحلة الراهنة. سأبدأ بالكلام عن الدروس التي تعلمناها. ولا شكّ في أنّ أهمّها يتمثّل بفقدان ثقة الرئيس كينيدي بصورة شبه فورية بمستشاريه الخبراء. ويبدو أن انعدام الثقة بدأ يتبلور خلال مقابلة مبكرة أجراها مع رئيس هيئة الأركان المشتركة، الذي أعلمه بعدد القنابل الذرية التي كانت سلاح الجو الأميركي ينوي إلقاءها على موسكو في حال اندلاع حرب. وحين فكّر كينيدي في ما كان يمكن أن يقوم به السوفيات رداً على ذلك، وفي تداعيات الهجوم على حياة أولاده الصغار، يقال إنّه أخبر أحد مساعديه بأنّ"الشيوعية أفضل من الموت"، وهو كلام تحوّل إلى الشعار الأساسي لحركة نزع السلاح النووي في تلك المرحلة، وكان لافتاً أن يعبّر عنه قائد ما يُعرَف ب"العالم الحر"، وإن لم يكن هذا الكلام مُعدّاً ليتم تداوله في العلن. وتفاقم انعدام ثقة كينيدي بمستشاريه عقب إخفاق محاولة الإطاحة بحكومة كاسترو الجديدة في كوبا، وهو ما عُرف ب"الإخفاق الكبير في خليج الخنازير". وقد بلغ انعدام الثقة ذروته خلال أزمة الصواريخ الكوبية في تشرين الأوّل أكتوبر 1962، حين برع كينيدي في توجيه الولاياتالمتحدة خلال ما أمكن اعتباره أخطر أيام تاريخ العالم، إذ ساد خلالها احتمال كبير بأن تشهد معظم المدن الكبرى في أميركا الشمالية وأوروبا تدميراً واسع النطاق. وفي حين كنتُ أستمع بلهفة إلى الأخبار عند وصولها إليّ، إذ كنتُ أقيم وأدرّس في القاهرة خلال تلك الفترة، أذكر جيّداً أنني فكّرتُ بأنّ"النهاية"ربّما أصبحت وشيكة. إنّ الجانب الذي تذكّر فيه قصة كينيدي بما يحصل اليوم هو أنّ الاستقطاب السياسي والاجتماعي الحاد سبق أن كان حاضراً، بحيث كان الرئيس مكروهاً في بعض أنحاء الولاياتالمتحدة، تماماً كما يحصل الآن مع باراك أوباما. أمّا الجانب الثاني، فهو أنّ كينيدي اعتُبِر دخيلاً كاثوليكياً أيرلندياً يتقلى أوامره من البابا، ومثل هذا الكلام يدور اليوم حول جذور أوباما الإسلامية-الأفريقية. إلى ذلك، اتُّهم كل من الرئيسين بميولهما"الاشتراكية"الخفية، بسبب رغبتهما في استغلال الحكومة لحلّ المسائل الاجتماعية العاجلة بطرق يعتبر يمينيون كثيرون أنها تهدّد مصالحهم الخاصة. وفي أوقات كهذه، تطغى فيها على السياسة مفردات بسيطة عن الخطأ والصواب، ويقتصر فيها أيّ جدال على طرف واحد، وتسود فيها مقولة أن من ليس معك فهو ضدّك، وتُعتَبر فيها التنازلات خيانة، تبدأ الأرضية المشتركة بالزوال، تماماً كما يحصل اليوم في الولاياتالمتحدة، وكذلك في مصر وسورية، وأي مجتمعات أخرى تتّسم بمستويات عالية من الاستقطاب والانقسام. نعرف اليوم أنّ مدينة دالاس، التي اغتيل فيها الرئيس كينيدي، كانت تضمّ عدداً من أشد خصومه تطرّفاً وأعنفهم، وقد استعمل البعض منهم ثرواتهم الطائلة لنشر الإشاعات والإهانات بحقّه، ولإطلاق تهديدات بالكاد مبطّنة ضدّه. وعلى ما يبدو، لم يكن الرئيس أو زوجته يريدان زيارة دالاس في تكساس، بعد أن شعرا باستياء سكّانها منهما. أما الخبر السيء، فهو أنّ الأمور قد تكون اليوم أسوأ حتّى مما كانت عليه منذ خمسين سنة. فقد شجّعت شخصنة مصادر الإعلام على بروز عالم من المعلّقين المتنافسين، الذين ينحازون لمن هم الأكثر تطرّفاً ضمن النطاق السياسي الأميركي، مع عدد قليل فقط من الاستثناءات. وتجدر الإشارة إلى أنّ محطات التلفزيون الفضائية لم تعد مرتبطة بأيّ من مفاهيم"الاتزان"و"الإنصاف"القديمة التي فرضتها الحكومة على الإذاعات في عام 1949، في حين يتمّ بناء إمبراطوريات إعلامية كاملة تشجع على حض الناس على الإصغاء باستمرار وتصديق ما يقال. يكمن تحدي الرئيس أوباما ومن سيخلفه في إيجاد طرق لتوجيه هذا التفجّر الكبير للإعلام المشخّص، ليستعيد صيغة تشجع على الديموقراطية الشعبية بدلاً من الاستهانة بها وتحويرها. * كاتب بريطاني - جامعة هارفارد