نتكلم على الثقافات وكأنها أمور واضحة، وبمجرد التأمل فيها يظهر أنها كائنات معقدة زئبقية يصعب تفكيكها ويستحيل الإمساك بها، مثل الحب. كلنا نحب فنظن أننا نعرف الحب، وما إن نحاول فهمه حتى نكتشف أننا لا نعرفه، ومن أهم الثقافات هي السياسية التي تحدد لصاحبها الفضاء الذي ينتمي إليه وتعطيه معياراً يقيس به المصالح. أحياناً يتم بناء الثقافة السياسية على أساس فكرة وأحياناً على أساس حدود سيادية. الثقافات السياسية القومية والدينية من النوع الأول، فتعتبر أن"القوم"أو"الدين"هو أساس فضائها السياسي. الكردي يؤمن أن الأكراد هم فضاؤه السياسي، والعروبي أن العرب هم فضاؤه، والإسلامي أن المسلمين هم فضاؤه، وواضح أن الكردية والعربية والإسلام أفكار. أما النوع الثاني فهو الثقافة الوطنية التي تؤمن أن الحدود السيادية لدولة ما هي مقوّم الثقافة السياسية، فالثقافة الوطنية البريطانية تقوم على أساس حدود بريطانيا، والسعودية حدودها السعودية، والمصرية حدودها مصر. كثيراً ما تكون للمرء ثقافة قومية وثقافة وطنية كالتركي - الألماني، والبخاري - السعودي، لكن الثقافتين ليستا على المستوى نفسه، واحدة منهما تخضع للثانية، التركي - الألماني، ألماني أولاً وتركي ثانياً، والبخاري - السعودي، سعودي أولاً وبخاري ثانياً، أي الفكرة تخضع لحدود الدولة. أنا مقتنع بأن الثقافة السياسية التي تقوم على الحدود السيادية لدولة السعودية هي الأفضل للدولة السعودية، والأقدر على احتواء واحترام الفروقات والتنوعات بين مختلف أطياف الشعب السعودي. البخاري - السعودي قد يختار الانتماء للعروبة، ولكنه ليس مضطراً لها، فلديه ثقافته وتاريخه وذاكرته، هو سعودي ولكنه ليس بالضرورة عربياً، يحق له القول:"أنا سعودي - بخاري ولست عربياً"، كما يحق له القول:"أنا سعودي - عربي ولست بخارياً"، فالثقافة ليست في الجينات بل بالاختيار، واعتبار أن البخاري - السعودي عربي لمجرد أنه يتحدث بالعربية معناها مصادرة حقه في اختيار ثقافته، وجعل اللغة أساس هويته القومية، في حين أنه قد يرى أن ثقافته المتوارثة من آبائه هي أساس شخصيته. إن القومي العربي السعودي يُصر على أنه ليس عنصرياً، ولكنه يمارسها في شكل كامن، ويصرّ على أن العروبة وحدها تحل مشكلات الثقافات، ولكنها"تحلها"بمعنى تمحوها لمصلحة الثقافة العروبية. أمّا أن التنوعات تعوق المشروع السياسي للدولة السعودية، فالمصالح الوطنية للدولة السعودية إما تحدد وفق مصالح كل العرب أو وفق مصالح السعودية. العلاقات السياسية السعودية إما تراعي"الأمة"العربية كلها، وإما تراعي السعودية وحلفاءها، مثلاً تركيا والمغرب، القومي سيقول إنه لا يجوز تحسين العلاقة السعودية - التركية على حساب العلاقة السعودية - المغربية، لأن السعودية والمغرب بلدان شقيقان انفصلا في لحظة تاريخية عارضة وطارئة، وهذا النوع من التفكير يؤدي إلى ضياع الموارد لأنه يطلب من الدولة أن تقدّم من حيث المبدأ الرابط اللغوي على الجيوبوليتيكي، وأي سياسي ممارس سيخبرنا بمدى سطحية مثل هذا التفكير وضرره على المصالح الحيوية لأية دولة. في المقابل فإن الوطني السعودي سيقول المهم مصلحة السعودية سواء مع تركيا أم المغرب. العروبي سيقاوم المشاريع السياسية الإقليمية الحيوية إذا لم تراعِ"الأمة"العربية، وهذا بحد ذاته معوق. أمر آخر هو أن القومي العربي السعودي يعتبر نفسه امتداداً للمشاريع القومية العربية، وكلها مشاريع سعت لتقويض الدولة السعودية، حتى أن جمال عبدالناصر أرسل 100 ألف من الجيش المصري إلى اليمن بهدف غزو السعودية والقضاء عليها، ولولا أن جيشه هُزم هناك لكان وصل إلى الرياض، ولا أعرف كيف أجمع بين مشروع دولة سعودية، وبين اعتبار مواطنيها أنهم امتداد لقيادات أرادت تقويض السعودية. أمر ثالث هو أن القومي يصر على أن الحدود السيادية للدول العربية غير مشروعة، باعتبارها حدوداً وضعها الاستعمار، وبطبيعة الحال فمن الصعوبة أن يتماهى المواطن مع دولة إذا كان يشك في شرعية حدودها، القومي هنا ينسى أنه لا علاقة بين مشروعية نشأة الحدود السيادية لأية دولة وبين مشروعية استمرار تلك الدولة، فمن محنة الإنسان أن كل الحدود السيادية إنما نشأت نتيجة لحروب مؤسفة كان فيها مظلومون كثر، وحدود الدول العربية ليست بدعاً، ولكن لكي تستمر الحياة السياسية والاجتماعية فلا بد من النظر إلى الأمام وإخراج النشأة من أي مشروع سياسي وحصر ذكرها في كتب التاريخ. أمر رابع هو أن القومي العربي السعودي يُساهم - هو والإسلاموي - في إبقاء مشروعية الثقافة السياسية الشمولية مما ينعكس سلباً على تطور الأخلاق السياسية لدى الفرد السعودي، فالثقافة السياسية الشمولية تريد من الفرد الولاء المطلق للفكرة، وتغض الطرف عن ممارسات العنف لأجل الحفاظ على نفسها، وتقدم نفسها على أنها غير قابلة للمناقشة، وعلى أن خصومها خونة وعملاء يعبدون الغرب، وأن القومية هي الحل، وترى أن الديموقراطية ليست قيمة بحد ذاتها، وكل هذه القيم الشمولية تضر مشروع بناء ثقافة سياسية سعودية قائمة على احترام الحريات الفردية، وعلى ضرورة المشاركة السياسية. فلماذا يتفاعل السعوديون مع القومية؟ الاحتمالات متعددة ويصعب الحصر بغير مسح عام، ولكن، من متابعة محدودة لبعضهم هناك سببان بارزان: الأول: غياب مشروع تربية وطنية سعودية، والأسباب لذلك كثيرة متأثرة بظروف إقليمية في خمسينات القرن الماضي دفعت السعودية نحو هوية سياسية إسلامية، وصار السعوديون منقسمين بين من يقول:"أنا إسلامي"وبين من يقول:"أنا عروبي"، وغاب الذي يقول:"أنا سعودي أولاً". الثاني: الإحباط السياسي الذي يعاني منه كثير من الشباب السعودي، فهناك شبه يأس من إمكان تحقيق مشروع وطني سعودي لدى البعض، ما يدفعهم نحو مشروع سياسي آخر، ولكن في الوقت نفسه لا يريدون مشروعاً سياسياً يقوض مصدر الرفاه والاستقرار والمنافع لهم، فينصرفون نحو مشرع سياسي حالم يمنحهم الشعور بأنهم أصحاب مشروع نبيل، وفي الوقت نفسه يرفع عنهم حرج تبني مشروع يتحدى الواقع. إن السعودية اليوم تمر بتحولات كثيرة داخلية وتحيط بها تحوّلات إقليمية عدة، وهذا يوّفر مناخاً ملائماً لإعادة إحياء فكرة الوطنية السعودية، لأن هذه الوطنية لا تولد بقرار سياسي فقط وإنما تحتاج إلى رحم ملائم لذلك القرار، وهذا الرحم هو التحديات السياسية التي تدفع شعباً ما نحو العمل المشترك، ما يعزز من شعورهم ب"نحن"في مقابل"هم"، ولكن القرار السياسي يحتاج إلى أن يرافقه خطاب وطني يقوم بتوظيف تلك التحديات، بحيث تولد منها هوية وطنية سعودية حديثة، وأضيف إلى أنه القرار السياسي والخطاب الوطني لن يُفلح ما لم يتم تفعيل مشاركة المواطن السعودي، لأنها الشرط الأساس لشعوره بأنه شريك في كل شيء، وليس فقط في الاستفادة من النفط. في منتصف القرن ال19 وبعد توحيد إيطاليا قال ماسيمو دي أيزيليو:"لقد صُنعت إيطاليا والآن حان الوقت لصناعة إيطاليين"، وأقول:"لقد أُبدِعتْ السعودية والآن حان الوقت لإبداع سعوديين". * كاتب سعودي