يمنع عرض برنامج"البرنامج"للساخر باسم يوسف بقرار من رئيس مجلس إدارة قناة"سي بي سي"المصرية. يسيل حبر كثير للتبرير والتعبير، للإدانة والاستنكار، للتشفي والشماتة، لكن النقاش الأكبر يدور حول الحريات في مصر ما بعد"الإخوان". لكن، ما علاقة الحريات المصرية في خلاف تقنيّ بين منتج البرنامج ومقدمه وبين إدارة القناة؟ الخلاف تجاريّ صرف، على ما أعلنت إدارة القناة، ولا علاقة لأي جهة سلطوية بذلك، على ما أعلنت الرئاسة المصرية. هناك الذي يُقال، وهناك ما يُستنتج مما لا يُقال. تعرضت الحلقة الأولى من الموسم الحالي لحملة انتقادات واسعة لتعرضها للسلطة الحالية في مصر. غمز يوسف من قناة الفريق أول عبدالفتاح السيسي وسطوته مقابل هامشية دور الرئيس عدلي منصور. سخر الرجل من إعلاميين وفنانين، وحتى من أشخاص عاديين، بالغوا في مديح السيسي. تناول بفكاهة علاقة"جماهير"الشعب المصري مع الضباط على مدى التاريخ ممعناً في انتقاد مرحلة مرسي. بعد أقل من أسبوع على حملة الانتقادات ضد باسم يوسف، يُمنع عرض برنامجه رسمياً وحتى"تُحل المشاكل"وفق بيان القناة. ومن حقّ أي مراقب أن يبني رابطاً ما بين غضب السلطة، من خلال حملة مؤيديها، وقرار المنع الذي يُراد له أن يمر وكأنه مسألة إدارية لا شأن للسياسة بها. رجل الأعمال المصري محمد الأمين مالك مجموعة قنوات"سي بي سي"ليس بعيداً من دوائر الحكم الراهن في مصر. الرجل سخّر وسائله الإعلامية كما سخّرها رجال أعمال آخرون لمهاجمة حكم"الإخوان"، من خلال باسم يوسف وغيره، وهو بالتالي واحد من رعاة الانتقال إلى مرحلة ما بعد"الإخوان"ومباركة خريطة الطريق السيسية وتركيبة الحكم التي نتجت منها. وعليه، فمن الصعب هضم رواية الجوانب التقنية غير السياسية التي ينضح بها بيان المنع تبرع القناة في الدفاع عن موقفها في واقعة منع عرض حلقة للبرنامج نفسه أيام رئاسة محمد مرسي. في تلك المناسبة يزدهر النقاش حول الحريات في مصر. والنقاش طوباوي يهمل أن البلد بحالة حرب حقيقية، بالمعنى العسكري والأمني والسياسي. والحرب يدور رحاها بعنف بين فريقين واضحين لا مكان لفريق ثالث فيها. فإما أنت مع"الإخوان"وامتداداتهم وإما أنت مع ما بعد"الإخوان"وامتداداته. والحرب حقيقية تجوز فيها الأدوات كافة كما نرى، من جيش وشرطة واستخبارات، ومن جهد ديبلوماسي محلي وإقليمي ودولي، ومن إعلام مستنفر في كل دقيقة لتقديس لحظة 30 يونيو وما آلت إليه. في منطق تلك الحرب التي يعود للمصريين فقط الحكم على ضروراتها، لا يجوز فتح معارك خلفية تربك الجهد"الحربي"العام. في منطق تلك الحرب، لأنها حرب، يصوّب القصف بكل أنواعه باتجاه العدو المعلن وحده دون غيره. في منطق الحروب الغربية لاحظنا كيف انصاعت الآلة الإعلامية للمجهود الحربي، فسقطت الموضوعية وانهزمت حرية الإعلام بالمعنى المهني. هكذا، هو أمر الأشياء في موسم الحروب. لكن، هل يجوز الاستكانة لمنطق"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"؟ وهل الزحف البشري التاريخي الذي تمّ الحديث عنه في مصر، وقيل إنه وراء تحرك العسكر، تهدده نكات باسم يوسف وسخريته؟ وهل يجوز الحديث عن حرب في مصر لا تسمح بنقد أو حياد أو رأي ثالث؟ وهل من الممكن في مصر أن تكون ضد"الإخوان"في شكل صادق منتقداً السلطة، أي سلطة، في شكل صادق؟ ثم ألا يعتبر قرار محمد الأمين الإداري توريطاً للحكم الجديد، في حال براءة هذا الحكم من قرار القناة، في جدل حول الحرية والقمع في زمن السجال حول شرعية حركة السيسي لدى المحافل الدولية؟ ثم أخيراً هل ممكن إزالة الأصنام التي تُعبد بعد أن أزالها الإسلام منذ أكثر من 14 قرناً؟ وهل ممكن إسقاط أي تأليه لقادتنا حتى لو لم يكن هذا القائد أو ذاك وراء ذلك التأليه؟ وحده المهرج بإمكانه أن يذكّر الملك بأنه سيموت. معادلة قديمة - جديدة لا بد من بقائها وصونها، سواء في عهد"الإخوان"أو في عهد من أزالوا حكم"الإخوان". وربما إذا كانت مصلحة القناة إذا صدقنا ذلك اقتضت وقف برنامج باسم يوسف، فإن مصلحة البلد، والتحوّل الذي جرى، أن تتدخل السلطة العليا لإزاحة هذه التهمة والضغط لعودة البرنامج كظاهرة عادية طبيعية روتينية، بصفته مساحة فنية هزلية، سيكون دائماً، لها ما لها وعليها ما عليها. إيحاءات باسم يوسف الجنسية أو ما وُصف ب"القباحة"وفق بعض المنتقدين تتناقض مع قيَم المجتمع المصري. هكذا، بررت القناة قرارها، فيما يشير صاحب القناة إلى أن القنوات الغربية تبث هذا النوع من البرامج في ساعة متأخرة ليلاً. فليبث"البرنامج"ليلاً وفي ساعة متأخرة! ما الضير في ذلك؟ شيء ملتبس، وقد يصبح خبيثاً، التلطي وراء قداسة القيم الاجتماعية لإسكات الصوت الآخر. ألم تتعذر الديكتاتوريات بتناقض الديموقراطية مع قيمنا وثقافتنا؟ ثم كيف نطوّر هذه القيم ونرفع من انفتاحها إذا لم نسمح بالتجرؤ على ما هو خشبي وموميائي؟ ثم ماذا في تلك الإيحاءات من مختلف عما نتحدث عنه جهاراً في بيوتنا ومقاهينا وأزقتنا ومكاتبنا. نقاش الحريات في مصر سواء تم الإفراج عن"البرنامج"أم لا نقاش صحيّ تستحقه مصر ما بعد 25 يناير، خصوصاً ما بعد 30 يونيو. بعض الإعلام المصري أتحفنا بهبوط استفزازي، اختلط فيه العنصري بالشوفيني، وراجت داخله مواسم الردح لمصلحة الفكرة الواحدة. وإذا ما كان البلد يخوض حرباً صعبة للخروج من ثقافة الديكتاتورية، مدنية كانت أم دينية، فإن من حقّ مصر أن تلحّ في التمتع بالحريات القصوى في نقد كل تأليه، وهو نقد يسقط أيضاً كل تأليه، حتى ذلك الذي يريد البعض إلصاقه بباسم يوسف نفسه. * صحافي وكاتب سياسي لبناني