رغم التطابق الكبير بين الشمولية الدينية والشمولية العسكرية في ما يتعلق بآثارهما على مجمل الفضاء المصري العام، إلا أن هناك تناقضين أساسيين بين نموذجي الشمولية المصريين يمكن رصدهما وتفسيرهما انطلاقاً من الخطاب الفلسفي والمعرفي الغربي من دون إغفال إشكالية مهمة، وهي أن الظاهرة الشمولية المصرية الوليدة تمثل بكل أسف تطوراً تاريخياً على صعيد هذا المفهوم. يتعلق التناقض الأول بالطابع العام الذي فرز الشموليتين كلتيهما، إذ اتسمت الشمولية الدينية بطابع تأسيسي جاء نتاجاً لوجود خط إيديولوجي محدد وفر نموذجاً معرفياً قبلياً لما سيجري تطبيقه على أرض الواقع، وبذلك تقترب الشمولية الدينية من مساحات الشمولية الأوروبية بطابعيها النازي والستاليني والتي تأسست على أطروحات فلاسفة ألمان مثل ماركس ونيتشه، منضوية بذلك في إطار صيغة معرفية شاملة أطلق عليها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو"الدولة الفلسفية". وهذا بخلاف الشمولية العسكرية المصرية التي اتسمت بطابع تأويلي يقترب كثيراً من مفاهيم المدرسة التاريخية الألمانية. فوفقاً لمفهوم فيلسوف التأويلية التاريخية الألماني فيلهلم ديلتاي، فإن المعرفة والوعي ينشآن في إطار التجربة المعاشة التي تستند إلى خبرة الواقع وتعقيداتها وهو السياق المعرفي الذي نشأت وتبلورت في إطاره الشمولية العسكرية مستندة إلى المسار الواقعي الكارثي الذي تمخض عن عام من حكم جماعة الإخوان المسلمين فشلت خلاله في توفير الحد الأدنى من التوافق السياسي والمجتمعي اللازم لبناء الدولة، كما فشلت في التأكيد على أي مبدأ متعارف عليه من مبادئ الديموقراطية، انطلاقاً من خطها الإيديولوجي الحاكم لخياراتها التاريخية. ومن ثم فإن الشمولية الدينية بطابعها التأسيسي كانت بمثابة مقدمة تاريخية ومنطقية للشمولية العسكرية بطابعها التأويلي. أما التناقض الثاني فيتعلق بالنزعة القيمية لشرعية الوجود والاستمرار للشمولية الدينية في مقابل النزعة الواقعية البراغماتية للشمولية العسكرية. وهو ما يتجلى في الفلسفة الحاكمة لعملية تكتيل الحشود والتحكم فيها. فالحشد الجماهيري الإخواني المستمر والمنتظم والثابت في حجمه العددي يرتبط بالتأكيد بالطابع الهيراركي وفلسفة القبضة الحديد الحاكمة للتنظيم. ولكن معظم المحللين المتعاطين في شكل مباشر مع موضوع الحشود"الإخوانية"ارتكبوا خطأ جوهرياً يتمثل في وصف تلك الحشود بأنها مغيبة تتصرف بلا وعي ولا عقل. وهو خطأ في التفسير يؤكده استمرار الحشد الإخواني رغم اعتقال القيادات التي تملك عصا السلطة فعلياً داخل الجماعة. فهذا اللغز السياسي المتعلق بالاستمرارية التاريخية لمنطق الطاعة داخل الجماعة والذي يفرض ذاته في شكل قيمي وحر على أفرادها رغم اعتقال القيادات، يمكن فكه ببساطة في إطار مفهوم شرعية الهيمنة الذي عبرت عنه في شكل أساسي أطروحات الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. فبفعل الطابع السوسيولوجي لتنظيم الإخوان نشأت داخل التنظيم علاقة اجتماعية/ سياسية قائمة على وجود إرادتين. إرادة هيمنة لدى القيادة وإرادة طاعة لدى الكوادر. إلا أن الاستمرارية التاريخية لتلك الهيمنة تعني أن إرادة الطاعة ناتجة من الانتماء السياسي والاقتناع بضرورة تلك الطاعة. وهنا تكمن معادلة الطاعة المركبة داخل جماعة الإخوان لأن تلك الهيمنة تستمد شرعيتها من القيمة الذاتية النابعة من تلك العلاقة التي تميز النظام الاجتماعي الذي يقبع داخله المهيمن عليهم من كوادر الإخوان، بما يجعل تلك الطاعة مرغوباً فيها من قبلهم انطلاقاً من أطروحات أيديولوجية أساسية في خطاب الإخوان متعلقة بنصرة الإسلام كعقيدة وبعث الخلافة الإسلامية كنظام سياسي. فتلك الأطروحات يتم من خلالها شرعنة وتمرير مبدأ الطاعة داخل الجماعة بوصفها القيم الذاتية التي يتمحور حولها التنظيم فكرياً ويتصرف على أساسها تكتيكياً على الأرض. وهذا ما يتناقض تماماً مع نموذج الشمولية العسكرية الذي تولد انطلاقاً من نزعة واقعية ونفعية عكست رغبة المصريين المحتشدين يوم 30 حزيران يونيو في استعادة الأمن وهيبة الدولة مع توفير تلك الدولة للخدمات الأساسية وإعادة تدوير عجلة الاقتصاد. ونتيجة لاعتقاد المصريين بأن الدولة بمفهومها البيروقراطي هي القادرة من الناحية الواقعية على أداء تلك المهام، فإنهم فوضوا الجيش باعتباره الشريحة العليا للبيروقراطية المصرية في ذلك. ومن هذا المنطلق يمكن تفسير هذا السلوك عقلياً انطلاقاً من فلسفة الهوية الهيجلية التي أضفت على المثالية الهيجلية نزعة براغماتية واقعية عبر مقولتها الأساسية بأن كل واقعي معقول وكل معقول واقعي مع التذكير بأن تلك النزعة ستجعل تلك الشمولية العسكرية قصيرة النفس ومنهكة بفعل تعدد وجسامة المهام الموكلة إليها مع ارتباط شرعية وجودها كذلك بقدرتها على انجازها بالكامل بخلاف الشمولية الدينية التي ستسعى إلى استعادة شرعيتها من موقع رد الفعل انطلاقاً من ممارسات الشمولية العسكرية الأمنية التي تمنح خطاب المظلومية الإخوانيه قُبلة الحياة، خصوصاً إذا تواكبت تلك الممارسات مع فشل العسكر في إنجاز مهماتهم المشار إليها آنفاً. فهذان التناقضان يعنيان ببساطة أننا إزاء شمولية دينية تملك قوة المعرفة في مواجهة شمولية عسكرية تملك قوة القهر وسلطة الدولة، ما يعني في النهاية تفرد الظاهرة الشمولية المصرية عن نظيراتها في التاريخ العالمي، لأنها تدشن بذلك معادلة سياسية وفلسفية وتاريخية جديدة من خلال تلك الدورة التاريخية التي تنشأ فيها الشمولية العسكرية على أنقاض الشمولية الدينية والعكس، بخلاف النظم الشمولية كافة في العالم التي نشأت تاريخياً بوصفها خطاً تطورياً وتاريخياً مستقيماً في مواجهة النظم الليبرالية. ? كاتب مصري