لا شك في أن الاتفاق بين أميركا وروسيا، حول سورية أو عليها، هو ثمرة حدث يُغيِّر المعطى السياسي والاستراتيجي على المسرح العالمي، وكما تمثل ذلك في لجوء النظام السوري إلى استخدام السلاح الكيماوي، المحظر دولياً، على هذا النطاق الواسع والفاضح، في غوطة دمشق 21 آبأغسطس 2013. هذا الحدث، مع ما استتبعه من تهديد بالتدخل العسكري ضد نظام الأسد، من جانب الولاياتالمتحدة ومن وقف معها من الدول الأوروبية، قد أيقظ العالم، وحرّك الدول الفاعلة، فضلاً عن هيئة الأممالمتحدة، سواء لأسباب إنسانية أو قانونية أو سياسية، ولكل أسبابه وذرائعه. وهكذا ولّد الحدث"الاتفاق"الذي قضى بتسليم النظام السوري مخزونه من الغازات السامة، على أن يتابع حربه ضد شعبه، كما بدأها قبل أكثر من عامين، وبمختلف الأسلحة الفتاكة، وكأن شيئاً لم يحدث. بل إن النظام ظهر بعد قبوله بالاتفاق بمظهر البريء ونال شهادة حسن سلوك دولية. بذلك تغيرت"قواعد اللعبة"حقاً بعد الحدث. ولكن ليس كما هدد أوباما وتوعد، إذ اجتمع الكل، أصدقاء وأعداء، روسيا وأميركا وإيران والنظام، والمعارضة الجهادية التي سهِّل لها أمر الدخول الى سوريا لتخريب الثورة السلمية. الكل اجتمعوا وتواطؤوا ضد الشعب السوري لإطالة أمد المأساة. كلهم يدعون إلى عقد مؤتمر"جنيف2"لقسمة الكعكة وتقاسم الحصص. وتلك هي الأكذوبة المزدوجة. تلك هي المهزلة والفضيحة. أتوقف هنا، عند البعد العالمي للاتفاق، لكي أسأل: هل نعود إلى زمن الثنائية القطبية الذي خرجنا منه قبل ربع قرن؟ مسوّغ السؤال أن الاتفاق الذي جرى بين الروس والأميركيين، في شأن المسألة السورية، يذكرنا بأجواء الحرب الباردة التي انتهت مع سقوط الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينات من القرن المنصرم. وفي تلك الحقبة كانت أميركا وروسيا تهيمنان على العالم، وتتقاسمان النفوذ والمواقع على ساحاته. أما بقية الدول، باستثناء الصين، فكانت موزعة الولاء والتبعية، لأحد المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي. هناك مراقبون ومعلقون يميلون إلى التشاؤم، في قراءتهم للاتفاق، إذ يعتبرون أن ما جرى يعيدنا إلى زمن الثنائية القطبية المشؤوم، بمقدار ما يهمش الأممالمتحدة ويلغي دورها الفعال في إدارة الشأن الكوكبي. ولكن لا يجدر التسرع في القراءة، إذ لا سبيل للعودة إلى الوراء، إلا على النحو الأسوأ، لأن هناك حقائق جديدة وأحداثاً جسيمة ووقائع خارقة، معها يعاد تشكيل الواقع الكوني، ويتغير النظام العالمي بمقدار ما تتغير المعطيات على الساحة العالمية. أشير بذلك: إلى الفتح التقني، كما تمثل بالدخول في العصر الرقمي، عصر المعلومة والشبكة والهوية العابرة والقوة الناعمة، بفتوحاته وإمكاناته التي خرقت الشروط وكسرت الحدود، لتفكّك النظام العالمي الذي كان سائداً بإيديولوجياته الحديدية وأنظمته الشمولية بشبيحاته واستراتيجياته القاتلة. الأمر الذي فتح المجال لولادة نظام عالمي جديد انكسر معه منطق الأحادية والثنائية، بمقدار ما أفضى إلى ولادة قوى جديدة فاعلة على المسرح. هذا ما جسّدته الدول الناشئة كالصين والهند والبرازيل، وسواها من البلدان التي حققت قفزات نوعية في حقول المعرفة ومجالات التنمية، فاتحة الأفق لنشوء فضاء تعددي، قوامه تعدد الأقطاب في السياسة، وتعدد النماذج في التنمية، إضافة إلى تعدد مراكز الإنتاج العلمي والفكري، وعلى نحو ينكسر معه احتكار الدول الغربية لإنتاج العلوم والمعارف. بهذا المعنى، فالخروج من زمن الثنائية، أو من زمن الأحادية، حيث أميركا انفردت بلعب دور شرطي العالم، إنما هو خروج من زمن الاستعمار والاستبداد معاً، بمقدار ما هو خروج من عالم الفقر والتخلف والتجارب، الفاشلة أو المدمرة، الذي غرقت فيه أكثر دول العالم الثالث، تحت شعارات التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي. فهل ترتد الدول الناشئة على أعقابها، وتعيدنا إلى زمن التجاذب الروسي - الأميركي، أي إلى الحقبة التي خرجت منها تلك الدول، لكي تنجز ما أنجرته، ولكي تصبح لاعبة على المسرح؟! من هنا المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتقها وعلى عاتق كل الدول الفاعلة، فهي بدعمها للموقف الروسي، المتمسك بالفيتو، تعطّل عمل مجلس الأمن، تحت ستار الشرعية العاجزة، مانعةً بذلك صدور قرارات دولية عالمية تجيز التدخل العسكري ضد طغاة الشعوب ومجانين الحروب. إن مشروعية مجلس الأمن التي يتمسك بها الروس، ومن يقف في صفهم، هي كشرعية ديموقراطية الصندوقة التي يتذرع بها"الإخوان المسلمون"في مصر، والتي هي ديموقراطية خاوية، فاقدة للصدقية، بعد أن أثبت"الإخوان"فشلهم الذريع في سدة الحكم، كونهم لا يملكون أفكاراً خصبة وخلاقة للإدارة والتدبير، فضلاً عن أن علاقتهم بالديموقراطية والمواطنة والدولة المدنية لا تصدر عن قناعة حقيقية، وإنما هم اتخذوها مجرّد وسيلة للاستحواذ على الدولة والقبض على السلطة. فكان من الطبيعي أن يخفقوا، على وجه السرعة، برعاية المصالح والنهوض بالبلاد. من هنا كانت العودة إلى الساحات العامة بحشودها البشرية، لإزاحة الرئيس"الإخواني"، كما تجسد ذلك في ثورة 30 يونيو الفائت. وتلك هي ديموقراطية"الميدان"الاستثنائية، ولكن الحيّة والفعالة. فهي التي حرّرت الجميع، بمن فيهم جماعة"الإخوان"، وأتاحت أمامهم الفرصة لكي يصلوا إلى سدة الرئاسة من طريق البرلمان. ولما أخفقوا كان من الطبيعي أن يطاح بهم، لفتح أفق جديد أمام العمل السياسي وإدارة الشأن العمومي. وهذا شاهد على أن ديموقراطية البرلمان هي شكل من أشكال الديموقراطية التشاركية التي تمارس، اليوم، بتوسيع مساحاتها وتجديد أطرها وتفعيل آلياتها، كما تجرى في الصحافة أو من على الشاشة وفي مختلف أمكنة الفضاء العمومي ودوائره، فضلاً عن الديموقراطية المباشرة والاستثنائية كما تمارس عبر الاستفتاءات الشعبية، أو في الميادين والساحات، كما في اللحظات الثورية. وهذه هي الحال على المستوى العالمي. إن شرعية"الفيتو"في مجلس الأمن، هي شرعية قاصرة، كشرعية البرلمان، تنتمي إلى زمن مضى. فلا يعقل أن يتغير العالم بخريطته ونظامه وقواه وطريقة عمله، ثم يبقى"مجلس الأمن"شغالاً، كما تأسس عند نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، من دون أي تعديل أو تغيير. وها هي الأزمة المستحكمة في أميركا بين الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري، تقدم شاهداً آخر على قصور شرعية النظام الديموقراطي التقليدي، إذ هو يتيح للأقلية أن تفرض وجهة نظرها على الأكثرية، بالتمسك بحق الفيتو. وتلك هي حصيلة"الفيتوقراطية"، كما يسميها المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما: عرقلة عجلة الدولة وتعطيل قرارات الأكثرية. أعود إلى الحدث السوري، لأقول إن هذا الحدث وما نجم عنه من اتفاق دولي، يفتح الإمكان لإعادة صوغ مجلس الأمن، أولاً لجهة تركيبته، بحيث يدخل إليه أعضاء جدد لهم وزنهم وفاعليتهم على المسرح الدولي"ثانياً لجهة وظيفته، بحيث يلغى حق الفيتو الذي يعطى لدولة تتحكم وحدها في إدارة الملفات والقضايا العالقة، وضد أكثرية دول العالم. ففي ذلك تكريس للأحادية القطبية في شكلها الأسوأ والأخطر كما يمارسها الرئيس الروسي بوتين، الذي يجمع بين أحلام القيصر الإمبراطوري والحنين إلى الزمن السوفياتي. أشير إلى حقيقة أخرى تغيّر معها المعطى عربياً وعالمياً، هي الثورات الجارية في العالم العربي، منذ ثلاث سنوات. هذه الثورات لم تحصل لكي نقع في الكماشة الخانقة التي يشدّ الروس والأميركيون بطرفيها على خناقنا. إن الشعوب العربية لم تخرج من سجونها وأقفاصها، ليقرر مصيرها بوتين أو أوباما، هذا الزعيم الأوحد أو ذاك المرشد المتألّه، ذاك الجهاد الإرهابي أو ذلك الداعية المشعوذ. وبالطبع فهي لم تنتفض لكي تقع ضحية دول فاشلة أهدرت ثرواتها ولم تحسن بناء نموذجها للنمو، بمقدار ما أحسنت ممارسة التشبيح الاستراتيجي بحثاً عن مواقع وأدوار على هذه الساحة أو تلك. فمفتاح النهوض والتقدم ليس في الخارج كما يحسب من يفوّت الفرصة ويضيّع الخارطة. إنه في الداخل عند من يحسن العمل على معطيات وجوده لتحويلها إلى عملة حضارية يصنع بها نفسه ويشارك في صناعة الحضارة بصورة غنية وبناءة، إيجابية وفعّالة. إن المجتمعات العربية قد خرجت إلى الساحات والميادين لتحسن الخروج من المآزق التي قادت إليها سياسات الأنظمة الشمولية والعقائد الأصولية، وذلك باجتراح الإمكانات التي تتيح لها ابتكار النماذج والأطر والوسائل لبناء نفسها وصنع تقدّمها ونموّها. وهذا يفترض أن تتحرر المجتمعات العربية من عقلية التسوّل والاعتماد على الدعم الخارجي على ما تشهد فضائح العلاقة بين"الإخوان والأميركان"، إذ هي لا تحتاج إلى مساعدات لكي تنهض وتنمو. إنما تحتاج إلى أفكار جديدة تفكّك بها آليات العجز، وبما يتيح تشغيل العقول المعطّلة لاستثمار الموارد أو لاجتراحها. أما العلاقات بينها وبين بقية الدول والمجتمعات، فإنها لا تبنى على التبعية ولا على الصدام، بل على التعاون والشراكة والتبادل. * مفكّر لبناني