الفيتو الروسي هو، اليوم، غيرُه قبل عقود، لأن المعطيات تغيّرت، على الصعد السياسية والإستراتيجية، وعلى نحوٍ تغيرت معه خريطة المشهد. ثمة تطورات بنيوية طرأت على الواقع العالمي يجدر أخذها في الحسبان إذا شئنا أن نحسن رصد التحولات وقراءة المجريات، فالدول والقوى الفاعلة تدخل في نظام جديد ننتقل معه من حقبة الاستعمار إلى ما بعده، كما ننتقل من الأحادية، التي نشأت بعد انهيار الثنائية القطبية أميركا/ السوفيات، إلى التعددية على غير مستوى: تعددية الأقطاب في السياسة، ثم تعددية النماذج في برامج التنمية، وأخيراً تعددية المراكز في البحث العلمي والإنتاج الفكري. هذا الواقع الجديد تساهم في تشكيله الدول الناشئة الصين، الهند، البرازيل، تركيا... التي تكسر احتكار الدول الغربية لإنتاج المعلومة والمعرفة والثروة والقوة. هكذا ظهر فاعلون جدد على المسرح، على نحو قَلَبَ المعادلة وغيّر قواعد اللعبة، بقدر ما غير أدوات الفهم والتشخيص. ولا أعتقد أن روسيا قادرة على العودة إلى زمن الثنائية الآفلة، في إدارة الشأن الكوكبي، لتقاسم الحصص ومناطق النفوذ مع الولاياتالمتحدة. هذا زمن مضى. على صعيد آخر، لم يعد مقنعاً خطاب القادة الروس حول التدخل الخارجي والمؤامرة الأميركية، كما لا ينفع الحنين إلى العهد القيصري أو إلى الزمن السوفياتي. الأجدى هو الاستجابة للاستحقاقات الداخلية المتعلقة بالأزمات المعيشية والمطالب الديموقراطية. هذه القراءة تصح، بنوع خاص، في تشخيص الواقع العربي، حيث العلة في الداخل الفاسد، لا في الخارج المتآمر. وها هي الشعوب العربية المنتفضة في غير بلد، تستنجد بالدول الغربية، بعد أن أصبح النظام الاستعماري القديم بنّاءً ورحيماً، بالمقارنة مع ما تلاه من الأنظمة"الوطنية"التي رفعت شعارات الاستقلال والتحرر والتقدم، لكي تنتج كل هذا البؤس والتخلّف والرعب والتوحش... الأمر الذي يفضح نظرية المؤامرة، كما يكسر ثنائية الفصل الحاسم بين الداخل والخارج. ولعلّ هذا ما يخيف موسكو التي بدأت تشهد حراكاً شعبياً يطالب باستقالة القابض على الأمر، في الكرملين، ما يجعله يتماهى مع الأنظمة العربية القابضة على السلطة منذ عقود. فالعدو المشترك لكليهما واحد: في الحالة الأولى حركات الاحتجاج، من جانب شرائح شعبية، ضد عمليات الالتفاف على الديموقراطية بالتلاعب والتزوير والتشويه، وفي الحالة الثانية الشعوب الثائرة ضد أنظمة الاستبداد والاستعباد أو النفاق والفساد. الداخل الفاسد لنقرأ الواقع، جيداً، في ضوء الأزمات المالية المستحكمة في الدول الغربية، أو على وقع المآسي والكوارث التي تصنعها الأنظمة في بعض الدول العربية والإسلامية: المشكلة تكمن في الداخل قبل أن تأتي من الخارج. هذه هي مشكلة أميركا اليوم. إنها ليست مع روسيا، بل مع سياساتها المالية التي تترجم أزمات وانهيارات متلاحقة، فضلاً عن استراتيجياتها في الهيمنة والتدخل، على الساحة العالمية، بأثمانها الباهظة، هدراً للأموال، وارتداداتها السلبية على الاقتصاد الوطني. وهذا ما يجعل غالبية الأميركيين تفقد الثقة بالنظام السياسي وتشعر بأن بلدها على حافة الانهيار راجع جريدة"لوموند"، الاثنين 13/2/2012. وهكذا فإن أميركا تستعد للخروج من العصر الإمبريالي، بعد أن تراجعت قوتها واهتز نموذجها للعيش، وبعد أن فقدت قدرتها على ممارسة دور الشرطي العالمي أو الانفراد بإدارة الشأن الكوكبي. وفي المقابل إن مشكلة روسيا، الأولى، ليست مع أميركا، ولا هي تُحلّ باقتناص مواقع في هذه المنطقة أو تلك. مشكلتها، أولاً، مع الفساد المستشري ومع الأزمة المعيشية، بعد تعثّر برامج التنمية التي تحتاج إلى التحديث والتطوير بصورة متواصلة. ومشكلتها، ثانياً، مع الثنائي الحاكم بوتين- مدفيديف الذي يريد الانقلاب على النظام الديموقراطي لإرجاع روسيا إلى عهود الاستبداد السالفة، لكي تصبح على شاكلة الأنظمة العربية التي تبنّت النموذج السوفياتي في الحكم وإدارة الشأن العمومي. وهذه هي الحال في أوروبا الغارقة في ديونها والعاجزة عن معالجة معضلاتها المالية. إنها باتت أعجز من أن تتدخل في شؤون الآخرين، إلا إذا طلبوا منها ذلك، كما حصل في ليبيا، وكما يحصل الآن في سورية. ولهذا نجد، اليوم، رجلاً آسيوياً مسلماً، كمهاتير محمد، الذي حقّقت ماليزيا في عهده قفزةً نوعية في مجال التنمية، والذي نجح في ابتكار حلول للأزمة المالية التي عصفت في بلده سنوات، يوجّه النصح لقادة أوروبا، بالخروج من قوقعتهم المركزية، لكي يبتكروا حلولاً لأزماتهم، بالإفادة من ماليزيا والدول الناشئة، كما أفادت هذه الدول من تجارب الأوروبيين وخبراتهم في ابتكار نماذجها. ولا وجود لنموذج وحيد أو أوحد. ولا أنسى، هنا، الصين، فإن هذه الدولة، وإن حققت نجاحاً باهراً في التنمية الاقتصادية، باتت قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة، فإنها لن تستطيع إرجاء الاستحقاق الديموقراطي أو تجاهله، فالتنمية في مجال الاقتصاد لا تتماشى، بل تتعارض، مع قمع الحريات وكم الأفواه في السياسة والثقافة. وها هي القوى الصينية الديموقراطية بدأت حراكها، وإن بصورة بطيئة أو خجولة. الاستكبار الديني وما ينطبق على روسيا أو على الصين، ينطبق في شكل خاص على إيران التي، على الرغم من وفرة مواردها، لم تنجح لا في نموذج التنمية ولا في امتحان الحريات الديموقراطية. إذ الشاغل والهمّ، لدى نظامها القائم، ليس الإصلاح أو التغيير نحو الأحسن، ولا تطبيق أحكام الشريعة أو ممارسة فرائضها، إلا إذا كنا من السذاجة، بحيث نصدق ما يقوله الدعاة الإسلاميون، بعد كل هذا الفشل والإحباط والانسداد، في ما يخص تحسين الأحوال المعيشية ورفع مستوى الحياة. الهاجس عندهم هو البحث عن مواقع وأدوار استراتيجية، عبر وسيلتين: الأولى هي الإغراء بالمال، تبذيراً للمال العام ورشوةً للغير، بتقديم المساعدات لهذا البلد أو ذاك، لا حبّاً به، بل لاستخدامه أو استتباعه أو قلب الأوضاع فيه. أما الثانية فهي التهديد بالصاروخ واستخدام العنف السافر أو الإرهاب المستتر، بما يشبه الذهاب إلى الحج بعد عودة الحجيج. أي أنهم يجربون المجرّب، ما يفضي إلى تفويت الفرص واستجلاب المشاكل وخراب القضايا وهدر ثروات الشعب الإيراني، بقدر ما يقود إلى ممارسة استكبار مضاعف، أي استبداد ديني وسياسي في آن. ولكن، ما عاد ينفع"التشبيح"النضالي والاستراتيجي، بحثاً عن المواقع والمغانم. ما عادت تجدي استراتيجية خلق الأعداء والتذرع بالمؤامرات لتغطية فشل السياسات، أو الهروب من الإصلاحات، أو خنق الحريات، سواء في روسيا أو أميركا أو الصين أو إيران، وبالأخص في الدول العربية التي تشهر سلاح الهوية والوطنية والمقاومة والممانعة. كمّاشة الثنائيات إن شعار المقاومة الذي تعيّشت عليه الأنظمة طويلاً بات مجرّد غطاء للسيطرة وتمويه المشكلة، فالمجتمعات العربية الضعيفة، المقموعة، الفقيرة، البائسة، التي تحكمها أجهزة المخابرات أو تلك المتروكة للمافيات الفالتة، لا تنجح في المقاومة، كما لا تنجح في أعمال الإنماء والبناء. وبالعكس. فالمجتمعات العربية، بقدر ما تصبح منتجة، غنية، قوية، تنجح في قلب المعادلة مع إسرائيل، ربما من دون حروب أفضت بعد ستين عاماً إلى انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطتين وكتلتين متناحرتين، كل واحدة منهما تابعة لمحور إقليمي. وهكذا لم نعد أمام الخيار الذي يضعنا بين فكّي الكماشة: الاستبداد أو الاستعمار، الممانعة أو المؤامرة، الوطنية أو العمالة، الصحوة أو الاستكبار... فالحاكم الفاشل أو الفاسد أو الجائر، أينما كان، هو العدو الأول لبلده وشعبه وأمته وللإنسانية جمعاء. وقديماً قالت الخوارج، في مواجهة الفريقين المتصارعين، ولكن المتفقَيْن على أن الخلافة تكون لعربيّ أو قرشيّ أو هاشميّ، ليحكمنا عبدٌ حبشيّ، شرط أن يكون عادلاً. من هنا يحضر السؤال المشروع: أيّهما أقرب لمنطق العدالة والمساواة أو إلى لغة الثورات الجارية: رئيس عربي يحتكر السلطة ويعطل الدستور والقوانين والأعراف، محوّلاً بلده إلى مزرعة له أو مستعمرة، أم رئيس غربي يستقيل لخطأ بسيط يتعلّق بمبدأ الشفافية والذمّة المالية، كما فعل الرئيس الألماني؟! أياً يكن، فإن مقولات المؤامرة والاستعمار والإمبريالية والتدخل الأجنبي، هي ثنائيات خانقة، بقدر ما هي عدة مستهلكة في المقاربة والمعالجة، قد فقدت صدقيتها، بعد أن انفضح زيفها وتحولت إلى لعبة جهنمية سافرة ومدمرة. فما يحرك القوى، من وراء الشعارات، الخادعة والمنتهكة، هو تأبيد السيطرة وجمع الثروة بصورة غير مشروعة، ولا شيء سوى ذلك، أي المحافظة على السلطة، بكل هذه الأثمان من الهدر والنهب أو الدماء والدمار. والمآل لمثل هذه الاستراتيجية هو أن تقود أصحابها إلى التخبّط والتورّط والتواطؤ مع من يعتبرون أعداءهم، بقدر ما تجرّهم إلى الانتقال من مأزق إلى مأزق، أو من خسارة إلى خسارة أفدح، لكي يكتشفوا ولكن بعد خراب البصرة، أن ما ظنّوه قوياً وصامداً وحقيقياً، قد استُهلك وتقادم عهده، وبات ضعيفاً هشاً، بقدر ما تحوّل إلى واقع منسوج من الوهم والكذب والزَيْف، حول الذات والغير والعالم. القوة الحية والخلاقة والمخرج من المأزق أن نقرّ بأن الثورات العربية التي أطلقتها الأجيال الجديدة، بعد أن فشلت أجيالُنا في شعاراتها ومشاريعها، ليست مؤامرات مدبّرة في الخارج، وإنما هي إمكانات فتحت أمام الشعوب العربية لكي تستعيد مبادرتها وتثبت جدارتها، بعد أن شوّهت سمعتها الأنظمة الديكتاتورية العربية والمنظمات الأصولية الإسلامية، بحيث تعمل على تفتيق قدراتها الحية وتشغيل طاقاتها الخلاقة، على نحو يمكّنها من تطوير مفاهيمها وابتكار وسائلها وتحديث أبنيتها، من أجل اختيار نظامها السياسي واستغلال ثرواتها وصنع ازدهارها وقيادة مصائرها إلى المشاركة في صناعة الحضارة، وفقاً للقيم الكونية الجامعة: الشفافية، التعددية، الديموقراطية، المواطنة بأبعادها الثلاثة: الوطنية والإقليمية والعالمية. ولا مبالغة في الكلام على المواطنة العالمية التي باتت واقعاً لا يمكن ولا يجدي القفز فوقه، لا سيما في هذا العصر، عصر المعلومات السيّالة والمعطيات المتغيرة والهويات العابرة والجنسيات المتعددة. والثورات العربية تقدم الشاهد الحيّ والأكثر راهنية. فالفاعلون الجدد، من الناشطين والمدونين، الذين فجّروها، قد أفادوا من الثورات والمتغيرات العالمية، بقدر ما أحسنوا استثمار التحولات والانعطافات التقنية والحضارية والثقافية والسياسية. وبدورها، فإن هذه الثورات تساهم في تغيير المعطى العالمي، إذ تفتح آفاقاً جديدة للتفكير والتعبير، بابتكارها صيغاً وأساليب للتظاهر والاحتجاج، للمقاومة السلمية والمدنية الفعالة، باتت تستلهم في غير مكان من العالم، من وول ستريت في واشنطن إلى ساحة الكرملين في موسكو. من هنا، فالرهان، بعد اليوم، أن لا تكون البلدان العربية، ولا ينبغي لها أن تكون، ملعباً لقوى الاستعمار القديم والاستكبار الجديد، ولا أن تكون ورقة للمفاوضة والمساومة، أو كعكة يسعى إلى اقتسامها الأميركيون والروس والإيرانيون، وسواهم ممّن يتصارعون على النفوذ خارج بلدانهم، ولكن، على حساب شعوبهم وضد مصالحها. والرهان، بالطبع، أن لا تتصرّف البلدان العربية بعقلية"المتسوّل"، طمعاً بالحصول على المساعدات من الخارج. فلا جدوى ولا طائل من ذلك، لأن المآل هو المزيد من الفقر والضعف والتبعية. إن المجتمعات العربية تملك موارد هائلة، مادية ورمزية وسياحية. وما تحتاج إليه هو الأفكار الخصبة والمبادرات الفذّة والتدابير الفعّالة والإجراءات الناجعة لترجمتها إلى معرفة ثمينة أو تنمية متوازنة أو سلطة تداولية أو قوة ناعمة من الأفكار والقيم ونماذج العيش الجذابة. حق التدخل العالمي يمكن للشعوب التي تتعرّض للقمع الوحشي أو للإبادة الجماعية، أن تطلب الدعم من دول وقوى أجنبية، بالطبع في ظلّ هيئة الأممالمتحدة، صاحبة الشرعية الكونية، التي لها حق التدخل في شؤون الدول، سواء باسم الدفاع عن حقوق الإنسان والجماعات، أو انطلاقاً من وحدة المصير البشري، في هذا العصر الكوكبي، حيث تشابك المصالح والمصائر. بهذا المعنى تلعب هيئة الأممالمتحدة دور الحكومة العالمية. وكما أن الدولة، في بلد من البلدان، تتدخل لردع الناس بعضهم عن بعض، فإنه يحق للأمم المتحدة أن تتدخل لردع الدول بعضها عن بعض، أو لردع دولة تبطش بشعبها. وهكذا لم يعد بإمكان أي نظام أن يحول بلده إلى سجن أو إلى قوقعة. فمن يظلم شعبه أو لا يحسن إصلاح أحواله، يفتح الفرصة أمام الآخرين لكي يتدخلوا في شؤونه. بذلك يستدعي التدخل أو يقع في أفخاخه، في ما هو يدعي محاربته. كفانا تهويلاً بالتدخل والتآمر. فهذه عملة نتقنها أكثر من سوانا، ولكن ضد بعضنا البعض. بهذا المعنى أيضاً يتم التدخل بمعايير جديدة ومختلفة تساهم في تشكيل عالم جديد يدار فيه الشأن الكوكبي بعيداً عن منطق الانفراد والاستئثار، أو الاحتكار والمصادرة، أو الهيمنة والسيطرة، أي ما أوصل العالم إلى مأزقه وعجزه عن معالجة الأزمات أو التصدي للتحديات التي تزداد استعصاء وتعقيداً، لتترجم، في حياة الناس والمجتمعات، فوضى وعبثاً وجنوناً أو عنفاً وإرهاباً وبربرية، سواء تحت اسم الله، أو الوطن، أو الأمة، أو تحت أي شعار مقدّس. فتقديس القضايا بعقل أحادي أصولي عنصري إمبريالي لا يؤول إلا إلى تخريبها. إن الدول والأمم لن تُقاد، بعد اليوم، بعقلية الحِقد الطائفي والاصطفاء العقائدي أو الشحن العنصري والنظام الفاشي، ولا بمنطق العظمة المزيفة أو الغطرسة القومية أو القوة العارية، فهذه تهويمات وعُقَد وهواجس وسياسات تعود بالكلّ إلى الوراء بقدر ما تفسد العلاقات بين الشعوب، بل هي تضر بمصالح الشعوب في معرض الادعاء بالحفاظ عليها. من هنا باتت الحاجة ماسّة إلى أن تُدار العلاقات بمفردات الحوار والتوسّط والشراكة والمبادلة والقوة الناعمة، ولا أنسى التواضع والمسؤولية التي تحمل صاحبها على الاعتراف بالخطأ، للقيام بالمراجعة وإعادة البناء، إذا كان الخطأ يعذر عليه أو مما يتكشف عنه منطق التجارب، أو يستقيل إذا كان الخطأ فاحشاً أو متعمَّداً. فأخشى من يُخشى منه هو الحاكم الذي يعتقد بأنه لا يُخطِئ أو الذي لا يتراجع عن خطئه. خلاصة القول: إن الثورات العربية تشكل فاتحة لعصر جديد تجترح معه إمكانات خصبة للتفكير والعمل والتغيير، لا سيما أننا ننتقل مع هذه الثورات من أصنام الزعيم الأوحد الذي يفكر بعقلية أنا أو لا أحد، إلى أدوار الرئيس المدبر والمسؤول والمؤتمن على الحقوق والحريات والكرامات، كما ننتقل من نماذج المناضل والمجاهد بالرشاش والفتوى إلى نماذج الناشط المدني والمواطن الوسيط الذي هو فاعل بقدر ما هو منتج وشريك"كذلك نحن نتعدّى مع الثورات الناعمة الديموقراطية التمثيلية نحو الديموقراطية التشاركية الميدانية والميديائية، كما نتخطى المنظومات الحديدية المغلقة نحو الشبكات المفتوحة على التواصل والتبادل. بهذا المعنى فالثورات لا تحرر فقط من ينخرطون فيها، بل تحرر أيضاً من يعتقدون أنها ضدهم أو هم ضدها، ممن تعودوا أو أجبروا على حياة التبعية والعمالة للأنظمة، أو العبودية للزعماء، ولو كانوا من أقرب المقربين إليهم. ذلك أن الثورات، بمفاعيلها التنويرية والتحريرية، قد توقظهم من سباتهم العبودي وتفتح أمامهم الأبواب لكي يعيدوا بناء حياتهم كذوات مستقلة على أسس من الكرامة والعدالة والحرية. والذي لا يريد، أو لا يقدر أو لا يحسن، أن يتغيّر، لكي يساهم في عمليات الإصلاح والتحديث والبناء، سوف تنقلب الأمور ضدّه، بما يشبه الانتحار أو الدمار الذاتي، لكي يحصد ما زرع من المساوئ والكوارث، فيظلم بذلك نفسه أو يورط أهله وقومه، باتباعه، سياسة الهاوية. أياً يكن، لا رجعة إلى الوراء، لاستخدام العدة القديمة، المفلسة أو المدمرة، بأفكارها ووسائلها وأجهزتها. لأن حركات الاحتجاج والقوى الحَيّة، لن تتوقف. قد تتراجع أو تتعثّر أو تنكفئ، في مواجهة التحديات والقوى المضادّة للثورة، ولكن لكي تعتمل وتتفاعل ثم تعود بأقوى ما يكون، في شكل موجات جديدة، محققة كل مرة نقلة نوعية في حياة المجتمعات العربية. * مفكر لبناني