تدخّلُ فرنسا العسكري اليوم في أفريقيا لا يشبه الحملات الحربية السابقة، في تشاد أو شاطئ العاج أو الكونغو برازافيل أو وسط أفريقيا. فهو لا يسعى إلى الفصل بين المتنازعين على السلطة، ولا ينحاز إلى حزب على آخر، كما فعل نيكولا ساركوزي في 2008 حين تستر على تصفية إدريس ديبي المعارضة الديموقراطية التشادية. فحملة باريس في مالي تتصدى للحركات المسلحة المختلطة المحلية والأجنبية التي تهدد وحدة أراضي البلد، ولا تتكتم على نيتها التوسل بالعمل الإرهابي ضد"الصليبيين". ولبى فرنسوا هولاند دعوة نظيره المالي الصريحة إلى النجدة في إطار قانوني تولت توصيات الأممالمتحدة رسمه. والهدف الأمني والدفاعي الوطني الفرنسي واضح: فالجماعات الجهادية شمال مالي تتوعد فرنسا بأعمال عدوانية مباشرة استبقت هذه بعضها في الأشهر الأخيرة وأعدتها الجماعات الجهادية انطلاقاً من بعض بلدان الساحل. وهذا التهديد لم يكن قائماً في الحملات العسكرية السابقة في رواندا والكونغووتشاد والتوغو وشاطئ العاج، والتي خلت من تهديد الأمن الوطني. والسؤال عن مبادرة فرنسا إلى شن عملية"القط المتوحش""سيرفال" وحدها، على خلاف تعهد هولاند الاقتصار على عمليات في إطار الأممالمتحدة وقراراتها، جوابه بدهي. فلولا العملية لكان سقوط باماكو في أيدي مقاتلي"القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"وحلفائهم محتوماً، ولكان سقوط 6 آلاف فرنسي وألف أوروبي أسرى فرع"القاعدة"المحلي ورهائنه، أكيداً. ففي 7 كانون الثاني يناير، انهارت المفاوضات بين السلطات المالية وبعض المنظمات الجهادية في رعاية الجزائر وبوركينا فاسو. وفي 8 منه، خسرت القوات المالية كونا، الحاجز الأخير على طريق قاعدة سيفاري الاستراتيجية ومدينة موبتي. وفي 9، شاهد خبراء فرنسيون بأم العين هرب قوات الكابتن سانوغو، وإخلاء الطريق إلى باماكو. قرار فرنسوا هولاند لم يكن وليد ساعته. وهو مهّد له بعمل ديبلوماسي، منذ بداية ولايته، في الأممالمتحدة. فتبنت توصيات دعت إلى إنشاء قوة تدخل أفريقية، وطلبت إلى الاتحاد الأوروبي تدريبها وإعدادها، ونبهت إدارة أوباما إلى الحاجة الإقليمية إليها، وأعلمت الجزائر، المتحفظة عن أي مشاركة عسكرية فرنسية في الساحل، بخطواتها. وفي الساعات الأولى التي أعقبت بدء العملية، حصلت فرنسا على تأييد الاتحاد الأفريقي، على رغم ضيقه الشديد بحرب ليبيا 2011، وعلى مساندة لوجيستية من الولاياتالمتحدة وبريطانيا. ورحبت دول الاتحاد الأوروبي، إلى جنوب أفريقيا وروسيا والصين، بحرارة متفاوتة بالخطوة العسكرية. وتوافدت طلائع القوات الأفريقية من بلدان غرب أفريقيا القريبة، ولم تبخل الجزائر على الطائرات الفرنسية بإجازة التحليق في أجوائها. والإنجاز الديبلوماسي اليوم يخالف أحادية التدخل الفرنسي سابقاً واضطراره إلى استدراج توافق متأخر ومصطنع. وينتهج الإنجاز سياسة تخالف تعمد ساركوزي المفاجآت والإحراج، ويتوقع أن يؤتي هذا النهج ثماره في مجال الدفاع الأوروبي. وليس ثمة شك في أن المرحلة التالية هي محك الاختبار الجدي والصعب. فعلى قوات بلدان غرب أفريقيا إظهار جدارتها في ميدان لا عهد لبعضها به ولا سابق معرفة، في ظل شروط مناخية غير مواتية. وتشكو هذه القوات ضعفاً عملانياً ولوجيستياً مقلقاً. ولا يستثني الرأي القوات النيجيرية، فهي ظل ما كانت عليه في تسعينات القرن العشرين، حين كانت في صدارة القوات الأفريقية المشاركة في عمليات لحفظ السلام. والمقاتلون الجهاديون لن يعدموا سبيل الانسحاب إلى الجبال الصحراوية الوعرة، والتحصن فيها. وفي مستطاعهم التعويل على دوام التموين، ويسر المواصلات. فسياسة الدولة الجزائرية يشبه التباسها إزاءهم التباس سياسة الدولة الباكستانية إزاء"القاعدة"و"طالبان". ولا يستهان بخطر نشوء ميليشيات، لدى استعادة شمال مالي، لا ترتدع عن انتهاك حقوق أهل الشمال ومصالحهم. وقد تنتظم الميليشيات في حركات مسلحة ومقاتلة. إن التحدي السياسي يفوق التحدِّيَيْن العسكري والأمني. فالطبقة الحاكمة المالية تصدعت، وكانت مدعوة إلى ابتكار بنيان دولة ? أمة جديد يقرّ للشمال باستقلال ذاتي، وبسلطات محلية واسعة، ويرعى توازناً بين علمانية الجمهورية وإسلام المجتمع المتعاظم التأثير. والميدان الاجتماعي حاسم: فمسألة الأرض تضطلع بدور راجح في ظرف يتفاقم فيه التصحر، وتتعاظم آثار تردي البيئة. ولعل هذا وجه الشبه الأول بين أفغانستان والساحل الأفريقي. والدافع الى الحرب الأهلية هو الأرض المروية وملكيتها، وعلاقة مربي الماشية والمزارعين ببعضهم بعضا، واقتسام المياه، والاستثمار العقاري في المدينة. وما يسمى نزاعات عرقية أو أقوامية يدور على صراعات زراعية تسللت إليها الحركات الجهادية، واستولت عليها. مسألة الشباب و"كرامتهم"تتبوأ مكانة حاسمة. وتصدرت"الكرامة"الحركة الوطنية بين عامي 1940 و1950، بشهادة قادة الحركة الأوائل. العصبية الوطنية تسترت على جانب من المشكلة، وأسدلت عليها قناع الإجماع على مناهضة الاستعمار، وأغفلت موضوع العبيد السابقين، وهم ربع سكان الساحل أو نصفهم، وفق المناطق والبلاد، وسكتت عن دنو مرتبتهم السياسية على رغم أن اشتراكية الرئيس الاستقلالي موديبوكايتا 1915 - 1977"المناهضة للإقطاع"كانت تتوجه إلى هذا الشطر من السكان. والشباب الذين يعانون عسر الحال الاجتماعية ونكدها، إذا كانوا من منبت عامي أو مسترق، يمكنهم اختيار مخرج من أربعة: 1 الإسلام الذي يتعالى على المراتب، ويجمع المؤمنين ولا يفرق بينهم، على الأخص لدى الزواج. 2 الجيش وهو محك الرجولة. 3 الانخراط في تجارة التهريب الدولية وهي مصدر ثراء ومدرسة شطارة. 4 الهجرة، وهي مختبر المغامرة وباب يدلف منه المهاجرون إلى النضوج والزواج والوجاهة. لكن أبواب هذه المخارج موصدة اليوم. فالانتصار على التيار الجهادي لا يقتصر على الجانب العسكري، ولن يكون ناجزاً إذا لم يكن سياسياً. ويفترض هذا مراجعة حاسمة لسياسات فرنسا في مجالات المساعدات الدولية للتنمية، وحظر المخدرات، وبلورة نظام إقليمي للأحلاف العسكرية. وتندد أطراف كثيرة بإحياء التواطؤ الفرنسي - الأفريقي "فرنسافريقيا". والواقع إن القرائن تُجمع على خلافه. وتتحمل فرنسا شطراً من المسؤولية عن انهيار دولة مالي، فهي ساندت في ثمانينات القرن العشرين برامج تقشف بنيوية، استوحت معايير ليبرالية جديدة وأدت إلى تحطيم مرافق التعليم والصحة، وشقت الطريق أمام تولي هيئات إسلامية تلبية الاحتياجات المهملة. وأيدت فرنسا"تحرير"تسويق القطن، ونزلت عند إرادة البنك الدولي، فرعت النزوح الريفي والهجرة، وحجرت على هذه في آن، في حين تفوق عوائد المهاجرين، المساعدات الدولية للتنمية. بادر ساركوزي إلى قطع هذه المساعدات. وأضعف سلطة الرئيس المالي أمادو توماني توري حين اشترط عليه توقيع اتفاق يلزمه باستقبال المهاجرين غير الشرعيين الذين تعيدهم السلطات الفرنسية، وبقبول اشتراك الجيش الموريتاني مع الجيش الفرنسي في قتال على الأراضي المالية منذ 2010 من غير إخطاره بالأمر. وأدت عسكرة مسألة شمال مالي إلى تنصيب"القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"علماً على مقارعة العدو الاستعماري، وقطباً جهادياً تصدر قوس أزمة مفترضاً بين باكستان شرقاً وموريتانيا غرباً. وزادت الحرب أمواج المهجرين وفقراء الصحراويين فقراً وعدداً. والضربة القاصمة مصدرها حرب ليبيا في 2011. فهي السبب المباشر في انسحاب طوارق مالي من القوات التي جندها القذافي، وعودتهم إلى بلادهم محمّلين بالسلاح. وأعقب الانسحاب والعودة إعلانُ الطوارق استقلال بلاد أزواد غداة اندحار الجيش المالي، ووضع الجهاديين اليد على شمال مالي. وخرّبت هزيمة القذافي شبكات المصالح الاقتصادية، وشطر منها استثمارات كان لها أثر فعلي في استقرار الساحل. وحظرُ المخدرات واحتواءُ الهجرة، على رغم هزال إنتاجهما، أثمرا عوائد ريعية عظيمة جناها مهربون، وتهدد الساحل بالنتائج التي خلفتها في أميركا اللاتينية: انفجار عنف العصابات المسلحة وانخراط منظمات الجريمة الأميركية الجنوبية والإيطالية والإسبانية، إلى الحركات المسلحة المحلية، في المعمعة. تقطف السياسات الفرنسية والأوروبية ثمرة 30 سنة من التخبط. وعلى فرنسا وحلفائها الأفارقة والأوروبيين بلورة نهج جديد في حقلَي المساعدات الاقتصادية والمساندة الأمنية المشتركة. وركن النهج فحص حاد في الموضوعات الدقيقة التي أفضت إلى أزمة بلاد الساحل، وهي الهجرة أو مساعدات التنمية. فالتقشف المالي الأوروبي، وهاجس مكافحة الهجرة إلى أوروبا، وتقديم بناء أوروبا على وجوه السياسة الأخرى، عطلت سياسة دمج بلدان الساحل، أو"أفريقيا الفرنسية"سابقاً، في دائرة أفريقية وأوروبية متماسكة، وحملت على تدبير العلاقات الأفريقية ? الأوروبية الفرنسية تدبيراً بوليسياً وتجارياً فاسداً. فتطهير هذا النسيج من المخلفات الاستعمارية، وأوْربته على نحو قاطع وواضح، مهمّتان ملحّتان وعاجلتان. ولا تخفى صعوبتهما: فالدول الأوروبية في شاغل آخر، والرأي العام الأفريقي يتأرجح بين التنديد بالسياسة الإمبريالية والارتماء في طلب الرعاية. ولعل فرنسوا هولاند طرق باباً جديداً حين دعا المهاجرين الماليين في فرنسا إلى المشورة والمداولة، واستقبل ممثلي الجالية في 13 كانون الثاني في القصر الرئاسي. هذه الدعوة لا تقل مكانة عن قرار التصدي للجهاديين وقطع الطريق إلى باماكو عليهم. * مدير بحوث في المركز الوطني، رئيس صندوق هيئة تحليل المجتمعات السياسية وصاحب"الاسلام الجمهوري... أنقرة وطهران ودكار"2010، عن"لوموند"الفرنسية، 23/1/2013، اعداد منال نحاس