تنكب اللجنة التي تعد الكتاب الابيض في الدفاع والامن الوطني على موضوعها في ضوء فرضية"الحجر"على الردع النووي. وتضطلع اللجنة بتخفيض نفقات الدفاع عن فرنسا، وتستبعد، ابتداء، عنصراً راجحاً ومتصدراً من عناصر الدفاع البارزة، ضاربة صفحاً عن التماسك الاستراتيجي الشامل، وغير مبالية بإضعاف الاداة العسكرية التي أوكلت إليها حمايتها ورعايتها. فإرادة المحافظة على المستوى الحالي لقوتنا النووية تعني إدانتها وشلّها. وهذا يترتب على تقليص موازنة الدفاع العامة، وحصة الشطر النووي هي رُبع الموازنة، إذا احتسبت تكلفة الاجهزة التي لا غنى عنها في إعمال القوة النووية. وفي هذه الحال، يصبح من المستحيل الحفاظ على القوات التقليدية الضرورية لصدقية هذا السلاح غير التقليدي. فمن غير قوات تقليدية مناسبة يقتصر الخيار على كل شيء، أي الاذعان لتهديد الخصم. ويقتضي الخروج من الخيار بين إعمال السلاح النووي في الحال وبين الإذعان للتهديد تقويم القوة النووية تقويماً جديداً لا يحول دون تخفيض النفقات، على خلاف ما يشاع، وعلى نحو يرعى مستوى القدرات التقليدية التي يحتاج إليها المنطق العام للردع، ولا تخل بهذا المنطق أو تضعفه. البعد النفسي في ميزان الردع، أو منطقه، راجح. ومفكرو النووي برهنوا على أن الرابط الاستراتيجي بينه وبين القدرات والموارد التقليدية وثيق جداً، ويستحيل فصل الواحد عن الآخر. والرضوخ لتردي أحد العنصرين في سبيل الحفاظ على الآخر يؤدي، فعلاً، الى خسارة الاثنين والحرمان منهما. منطق الأمر بسيط، ينهض على تدرج العمل العسكري، وعلى مطابقته التوقع، واستقلال القرار الحربي، واستباق أعمال الالتفاف. والضرورة الاولى بديهية لأن الاختيار بين كل شيء ولا شيء غير معقول، والقفز من حال السكون الى الكارثة العظمى ينتهك مبادئ العمل وشروطه المتدرجة. وهذه البداهة قادت الولاياتالمتحدة الى الاحتفاظ بقوات تقليدية ضخمة اثناء الحرب الباردة. وهذا ما فعلته فرنسا كذلك، إذ أدركت ان مواجهة عسكرية تقليدية على جانب ملحوظ من الخطورة هي شرط ضروري لتسويغ نار نووية، اخلاقياً واستراتيجياً. فلا تسوغ ضربة أولى أمام محكمة التاريخ إذا لم تسبقها أعمال حربية تقليدية على مقدار من الخطورة ينذر المجتمع الدولي والخصم بعزمنا على المضي قدماً والى نهاية الشوط. وليس إظهار الإرادة السياسية أقل رجحاناً. وينبغي أن يكون الخصم على يقين بأننا عازمون فعلاً على ضربه بالسلاح النووي، وبأننا، إذا اضطررنا، لن نتردد في المضي الى التدمير الاعظم. وجواز هذا الامر ينبغي البرهان عليه بواسطة استعراض قوة يعلن على الملأ حزم الدولة وعزمها على استعمال القوة العسكرية في حسم الازمات ومعالجتها. يُذكر أن الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي أكثرا من هذه الاستعراضات التقليدية أثناء الحرب الباردة، وتوسلا بها الى إثبات صدقية إرادة الردع لكليهما. ويقتضي بنيان الردع امتلاك قوات تقليدية متينة، تواتي الاستعمال من غير عسر، وتثبت القدرة على استعمال الاسلحة النووية. واستقلال الردع هو الركن الثالث من اركان الصدقية، وهو يفترض ان الدولة أو صاحب القوة النووية ليس مرتهناً لغيره في قراره الاستعمال، ويتصرف من غير قيد بمعرفته أي استخباراته المستقلة والموثوقة وتدبيره أمر قيادته وجهازه اللوجستي. وهذه القدرات أظهرت عملية"هارماتان"في ليبيا حدودها وتقييدها العمل العسكري. وقد يكون مفهوماً ان تقبل دول أوروبية تخلت منذ زمن عن سيادتها على دفاعها بنواقص فادحة في تجهيزها وتسليحها، وبالدعوة الى اقتسام أعباء الحرب والمشاركة في القيادة. لكن هذا القبول ليس مفهوماً من قوة أرست دوامها وبقاءها على سيادة قرارها في المجال النووي وهذه حال فرنسا. وأخيراً ينبغي التصدي للالتفاف على الردع، خصوصاً الأعمال العدوانية المحدودة التي ترمي الى استحداث وقائع يتعذر الرجوع عنها. ووسيلة التصدي هي إنشاء نظام قوي في مستطاعه إحباط عمليات الخصم الذي يحاول محاذاة الحد النووي من دون أن يبلغه. وتستدعي سياسة الالتفاف على إعمال سلاح الدمار الشامل، التخطيط للجموح الى اقاصي العنف تخطيطاً دقيقاً. وتؤدي الأسلحة التقليدية في هذا الاطار دوراً جوهرياً، يتعاظم طرداً مع دوام النزاعات المسلحة، وعجز الردع النووي وحده عن قطع دابرها. وبناء على هذا، لا مجال للشك في ان الاستراتيجية الذرية تفترض معالجة شاملة لا يجوز استبعاد القوات التقليدية منها أو إغفالها. وهذه الاستراتيجية لا تقتصر على الدفاع وحده، فالقرار الرادع هو صنو الإرادة السياسية التي تشترط استقلال القرار أولاً، والعمليات التي تنفذها القوات الاحتياطية المتينة وتنخرط فيها القدرات الضرورية كلها، ثانياً. وليس في مقدور الجيوش الفرنسية، اليوم، أداء مثل هذه العمليات، والوفاء بالشرط الثاني. فهي تفتقر الى التماسك العملاني، وتشكو خللاً داخلياً بين أجزائها. والردع يقتضي، أولاً، توازن البنيان قبل قوة أجزاء البنيان وفروعه. وغلبة الميل الى المحافظة على مستوى القوة النووية، وعلى مستوى نفقاتها في الموازنة الدفاعية الفرنسية، تحتم الانتقاص من فاعلية دورها ودلالتها. * جنرال ومدير مدرسة الحرب سابقاً، أستاذ مشارك في معهد العلوم السياسية بباريس، عن"ليبيراسيون"الفرنسية، 7/1/2013، اعداد م.ن.