حدثَ في أَثناءِ احتلال الجيش العراقي الكويت أَنَّ صدام حسين جمع أَكاديميين في العلوم السياسية وأَساتذة جامعات من الباحثين في مراكز بحثٍ عراقية، وسأَلهم عن الأفضل، أَنْ ينسحبَ الجيش العراقي من الكويت أَم يُقاتل حتى آخر جندي، وأَعطاهم خمسةَ أَيام للخروج باستشارةٍ في هذا الخصوص. جاءَه هؤلاء بعد المهلة، وأَبلغوا صدام أَنَّ الأنسب للعراق وشعبه أَنْ يخرجَ جيشُه من الكويت، فغضبَ، واستنكر هذا"الجبن"الذي استهجنَ وصولَه إِلى الأكاديميين. روى الواقعةَ مدير مركز دراسات البصرة والخليج العربي، عامر السعيد، في ورقتِه التي استمعنا إِلى موجزِها منه في المؤتمر السنوي لمراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية، والذي نظمَّه مؤخراً في الدوحة المركز العربي للأَبحاث ودراسة السياسات، وهدفَ إِلى الإضاءَة على واقع مراكز البحوث والدراسات في البلاد العربية وأَحوالها وطموحاتها، ونظنُّه نجحَ في إِفادتنا في هذه القضايا وغيرِها، نحن الذين زاد عددنا على مئةِ مشاركٍ ومدعوٍّ وضيف على هذا المؤتمر الذي استمر يوماً، وتلاه مؤتمر في يومين عن"تحولات جيوستراتيجية في سياق الثورات العربية". لم يكن مفاجئاً أَنْ تُشير الأوراق، وهي اثنتا عشر، إِلى محدوديةِ تأثير مراكز الأبحاث العربية وقلة فاعليتها، والمعيقاتِ التي تواجه أَنشطتها، ما قد يبدو محبطاً للقائمين عليها، لا سيما من ينشطون فيها بهمَّةٍ علمية، والذين على قناعةٍ بأَهمية مراكز البحوث والدراسات في إِسعاف صنّاع القرار بما يلزم من معطياتٍ لاتخاذه بالشكل الأصوب والأنفع. ولا نحسبُ أَنَّ مدير المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية في القاهرة، عادل سليمان، جازفَ في قوله إِنَّ مراكز التفكير والرأي المستقلة لم تعد ترفاً يمكنُ لأيِّ مجتمعٍ يسعى إِلى التطور أَنْ يستغني عنه، ما دام يسعى إِلى التصالح مع نفسِه وحاضره، غير أَنَّ الحال العربيَّ لا يسوقُ إِلى ذلك. وإِذا كان هذا الحال صار يشهد انعطافاتٍ ليست هينة، تُدشِّنها ثوراتٌ غير هينة الآثار، فإِنَّ المراقب قد يُخمِّن أنَّ تحولاً سيطرأ على علاقة صناع القرار بمراكز الدرس والبحث والرأي. وقد لفتَ الأُستاذ في الجامعة الهاشمية في الأردن، سامي الحزندار، في ورقتِه، إِلى إمكانية تطور هذه المراكز في مرحلة ما بعد ثورات العربية وإِبّانها، خصوصاً في دول هذه الثورات، ذلك أنَّ تغييراً أَساسياً في عملية صنع القرار حدثَ مع التغيير في القيادات السياسية في هذه الدول، وبالتالي، خضوعها إِلى عمليةٍ ديموقراطية، يفترضُ أَنْ تقوم على المساءَلةِ البرلمانية أَو الإعلامية أَو الشعبية، وعلى الشفافية والمشاركة في المعلومات. وله وجاهتُه ذهابُ الورقةِ إِلى أَنَّ هذه المستجدّات العربية، أَو المداخلات الجديدة لعملية صنع القرار، أَصبحت تتطلب توفير كفاءاتٍ علميةً خبيرةً أَو مؤهلةً تُشارك في صنع السياسات العامة، بالإضافة إِلى مشاركةِ مؤسساتِ المجتمع المدني، بما فيها مراكز الدراسات في صنع القرار والسياسة العامة. ويتيحُ هذا الوضعُ فرصةً جديدةً لمراكز الأبحاث، ممثلةً في خبرائها وباحثيها، للمشاركةِ الحقيقيةِ ولعب دورٍ مهنيٍّ، على الأقل، في صنعِ السياسات العامة للدولة، وفي عمليةِ صنع القرارات، وصولاً إِلى تخطيطٍ علميٍّ سليمٍ لبرامج الدولةِ وسياساتها وحسن إِدارتها. هو اجتهادٌ له أَهميتُه في سياق المسألة المطروحة هنا، في شأنِ العلاقةِ المختلة، غالباً، بين مراكز البحث والدراسات والتفكير المستقلة وصانع القرار في البلاد العربية، باستثناءاتٍ معلومةٍ، ربما في شأن تزويد الحكومات وأَهل القرار التنفيذيِّ بمعطياتٍ وبياناتٍ وإحصاءاتٍ تُساعدُ في التخطيطِ في شؤون الاقتصاد وخدمة الديون والمسائل المتصلة بالمشروعات الكبرى. وما يُضعفُ إِمكانية بناءِ تصورٍ متكاملٍ في شأن حدود الفاعلية والتأثير لمراكز البحوث والتفكير العربية، والمتعددة التابعيّة للجامعات والأكاديميات والدوائر الحكومية، وكذا المستقلة ذات التمويل المتنوع، غيابُ قاعدةِ بياناتٍ شاملةٍ ووافيةٍ عن كل هذه المراكز في المنطقة العربية. وكان طيِّباً أَنَّ المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات تبنّى دعوةً، في مؤتمره، إِلى تشكيلِ شبكةٍ لمراكز التفكير والدراسات السياسية والاستراتيجية العربية، يكونُ من مهماتها العملُ على إِنشاءِ قاعدةِ بياناتٍ للمراكز البحثية في المنطقة العربية. وقد أَُعلن في مختتم المؤتمر عن تشكيلِ لجنةِ تنسيقٍ لدراسةِ أَنسب الوسائل والآليات لتأسيسِ الشبكةِ التي ستتنوع وظائفُها، منها العملُ على ترسيخ التعاون البحثيِّ والأكاديميِّ وتبادلِ الخبراتِ والمعلوماتِ في ظلِّ المتغيراتِ في المنطقة العربية، ومرحلة التحولات الديموقراطية التي يمرُّ بها. والأَملُ معقودٌ أَنْ ينشطَ جهدٌ جدّيٌّ في اتجاه بناءِ الشبكة المأمولة، لا سيّما أَنه في محلهِ اعتبار المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات أَنها حاجةٌ إِلى تكاتفِ جهود الخبراءِ والأكاديميين والممارسين، من خلال مراكز البحث والدراسات، لتوفير المعلومات والتحليلات والبدائل، للتعامل مع القضايا الرئيسيةِ ذات البعد الاستراتيجيِّ برؤيةٍ مستقبلية. وبالنظر إِلى ما عُهد في المركز العربيِّ من حيويةٍ وجديةٍ في نشاطاتِه، في عمره القصير عامان، فالمتوقَّع أَنْ يدفع بفكرةِ الشبكة إِلى التطبيق، لا سيّما أَنه تمَّ الاتفاق على إِنشاءِ سكرتاريا لها، تقدِّم الدعم اللوجستيَّ والتنسيقيَّ للجنةِ متابعة التأسيس، مقرُّها المركز العربي نفسه، وتتابعُ مراحل التأسيس مع الشركاء من مراكز البحوث. والمأمولُ أَنْ تنجح اللجنة المشكلة في إِنجاز خطواتِ تأسيس الشبكة في ثلاثة أَشهر كما تم تحديد الخطة الزمنية، بدءاً من وضع رؤيةٍ الشبكة وأَهدافها الرئيسية، ووضع تصورٍ لمهماتٍ أَساسيةٍ يمكن أَنْ تضطلع بها هذه الشبكة، وتضطلع، أَيضاً، بإنجاز الإطار القانونيِّ لها وللوائحها الداخلية، ووضعِ تصورٍ لتحديد معايير العضوية فيها، وتصورٍ آخر لتحديد الالتزاماتِ المالية المشاركة في الشبكة، وذلك كله بحسبِ ما انتهى إِليه اجتماع اللجنة في الدوحة. وإِذ تتحمَّس سطور هذه المقالةِ للشبكةِ المرتقبة، فإنها، في الوقت نفسه، تُراهنُ على أَنْ تُحقِّق حضوراً وازناً في الدرس والبحث العلمي العربي في شؤون السياسةِ والديموقراطيات والاستراتيجيا والطاقة والشباب والبيئة والتقنية، وغير ذلك من موضوعاتٍ شديدةِ الثقل في الفضاءِ العربي العام. وإِذا كان المركز العربي قد نجحَ في حشد ممثلي أكثر من 70 مركزاً عربياً في مؤتمره، الأول من نوعِه على الأغلب، فإِنه مؤهلٌ للنجاح في مشروعِه الجديد، ليُضافَ إلى ما ساهمَ به في إِضاءاتٍ ثمينةٍ على الثورات العربية. * كاتب فلسطيني