أنجز"مركز الدكتور أحمد عكاشة للطب النفسي"، التابع لكلية الطب في جامعة عين شمس، دراسة حول خدمات الصحّة النفسية في العالم العربي بالاشتراك مع"مركز سان جورج الطبي"في كلية الطب في"جامعة البلمند"في بيروت. أدنى من الحدّ الأدنى لخّصت الدراسة الوضع الراهن في خدمات الصحّة النفسية في العالم العربي الذي يضم 22 دولة عضواً في جامعة الدول العربية. واتضح أن 6 من هذه الدول لا تملك تشريعات خاصة بالصحّة النفسية، واثنتين منها ليس لديهما سياسة من أي نوع تتناول الصحّة النفسية. وفي الدول العربية التي استطاعت الدراسة أن تحصل على معلومات فيها، تبيّن أن الموازنة المخصّصة للصحّة النفسية بالنسبة إلى المجموع العام لموازنة الصحّة، أدنى من الحدّ الأدنى اللازم لتقديم خدمات أوليّة في الصحّة النفسيّة. وأشارت الدراسة إلى حدوث تحسّن طفيف في هذه الصورة القاتمة في العقد الأخير، لكن الاهتمام بالموارد البشرية في مجال الصحّة النفسية ما زال غير كافٍ. وتناولت الدراسة نسبة المرضى النفسيين في الدول التي شملتها، ونسبة الأطباء النفسيين بالنسبة إلى السكان، ومدى الاهتمام برصد موازنة للطب النفسي ضمن موازنة الصحّة وغيرها من مؤشرات الاهتمام بالصحّة النفسية. وكشفت الدراسة غياب المعلومات عن نسبة التوسّع في مجال الصحّة النفسيّة في قطاع الصحّة في معظم الدول العربية، من دون أن يهتمّ المسؤولون حتى بالإشارة إلى هذا الأمر! إذ بلغت نسبة المرضي النفسيين في ثلاث بلدان الكويت ولبنان والبحرين أكثر من 30 مريضاً نفسياً لكل 100 ألف نسمة، بينما سجلت أدنى نِسَبهم في العراقوالأردنوقطر، وفق تقديرات تعود إلى عام 2007. وتبيّن أن العدد الأكبر للأطباء النفسيين موجود في قطر والبحرين والكويت، بينما لا تملك سبعة بلدان أخرى سوى نصف طبيب نفسي لكل 100 ألف نسمة! ومثلاً، على رغم وجود مستشفى للأمراض النفسية في جيبوتي، إلا أن هذا البلد لا يضمّ أطباء نفسيين متخصّصين، ولا أطباء عامين يهتمون بالصحّة النفسية فيها! سلحفاة التقدّم! على صعيد التطور في مجال الصحّة النفسي، أشارت الدراسة إلى أن السنوات الأخيرة الماضية أظهرت تغيّرات كبرى في مجال الصحّة النفسية في البلدان العربية، وأصبحت خدمات الصحّة النفسية التي كانت محصورة في بضعة مستشفيات كبرى تقدم اليوم في وحدات خاصة للطب النفسي في المستشفيات العامة. ونوّهت بتوجّه بعض البلدان العربية إلى التوسّع في لامركزية هذه الخدمات، ما جعلها تتوافر في مستشفيات المقاطعات، إلى جانب بقية خدمات الصحّة. ولفتت إلى إطلاق برامج التدريب على الصحّة النفسية للأطباء العاميّن وكوادر الصحّة ممن يعملون في الرعاية الصحيّة الأولية، في عدد كبير من البلدان العربية، كجزء من برامج تعزيز مهارات الخدمات الداخلية في المستشفيات. وعلى رغم موافقة غالبية بلدان المنطقة على مبدأ إدماج الصحّة النفسية في نظام الرعاية الصحيّة الأولية، ما زال التطبيق الفعلي محدوداً، كما لا تزال البنية التحتية للصحّة النفسية والخدمات المتعلقة بها في معظم البلدان غير كافية، خصوصاً أن معظم البلدان العربية تعاني حالياً نزاعات وحروباً وإرهاباً وتطرّفاً، الأمر الذي ينثر بذور كثير من الاضطرابات سلوكياً ونفسيّاً. في جانب آخر، تطرّقت الدراسة إلى شيوع عادات ثقافية مثل الاتكاء على الشعوذة وانتشار مفهوم"مس الجن"في تفسير أعراض الأمراض النفسية في كثير من البلدان العربية. واستطردت الدراسة لتُلاحِظ أن المريض النفسي لا يلجأ إلى طبيب، بل يقصد من يطلق عليهم تسمية"الشافين التقليديين"الذين يملكون أهمية خاصة لما يدعونه من معرفة الغيبيات، مع ملاحظة انعدام العلاقة بين هؤلاء"الشافين التقليديين"والأطباء في معظم البلدان العربية. ولفتت إلى أن الأردن نسج نوعاً من العلاقة غير الرسمية أو شبه المُنظمة بين هذين الطرفين، في حين يشكّل"الشُفاة التقليديون"جزءاً من الطاقم الطبي في السعودية، ويستخدمون الإطار الديني والتلاوة في التعامل مع حالات المرض النفسي. وأظهرت البيانات التي جمعتها الدراسة أن العالم العربي يعاني نقصاً في المعلومات حول الموازنة المخصّصة للصحّة النفسية، على رغم اندراجها ضمن موازنة الصحّة العامة في بلدان قليلة. وتناولت الدراسة مسألة ضآلة الموارد البشرية في مجال الصحّة النفسية، والنقص في البيانات المتصلة بالأمراض النفسية- العقلية من قبل الهيئات الرسمية، معتبرة إيّاهما غير متناسبين مع الصورة العامة للأوضاع الاقتصادية في البلدان العربية. ودعت هذه الدراسة إلى إدراج الصحّة النفسية ضمن بنى الرعاية الصحيّة الأولية في الدول العربية، على غرار ما هو حاصل في كثير من بلدان العالم الثالث، بل حتى الدول الصناعية المتقدّمة.