"حلّقت"الحافلة لبعض الوقت في عملية"إقلاع"لم تطل سوى ما يكفي من وقت اهتزت فيه الأجساد المرتخية ورمشت العيون واستفاق النائمون على متنها للمرة الأخيرة ليشهدوا على موتهم المحقق، أثناء"هبوط اضطراري"في واد سحيق على عمق يزيد عن مئتي متر أودى بحياة غالبيتهم. في الليلة الرابعة من الشهر الجاري قضى في الحادث المأسوي الذي وقع ناحية مدينة مراكش جنوباً 44 شخصاً وجرح باقي الركاب ال 67 جروحاً متفاوتة الخطورة. كان الحادث الأعلى بحصيلته الدموية في السنوات الأخيرة. في اليوم ذاته، التحق قتلى على طرقات أخرى في أماكن متفرقة من البلاد بموكب الجنائز الضخم. وقبل أن تنقضي ساعات ذلك اليوم الحزين، كان موكب الموت استكمل حصد خمسين قتيلاً، فقدوا حياتهم عبثاً في"حرب"بلا قضية. صدمة قوية ومخيفة رجّت المجتمع المغربي، وكأنه ليس هو مَن تعود كل سنة، على دفن عشرات المئات من الجثث المنتشلة أوصالها من الطرقات بدم بارد. وتشير الأرقام الرسمية للجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير إلى أن أكثر من 4000 شخص قتلوا في السنة الماضية، مقابل حوالى 10 آلاف إصابة خطيرة. زيادة مرتفعة تقدر نسبتها ب 12 في المئة، لكن الزيادة مقلقة أكثر في العام الجاري وتنذر بتكسير العتبة المسجلة عام 2011 طالما أن الأشهر الستة الأولى من 2012 شهدت ارتفاعاً في عدد القتلى بحوالى 8 في المئة. منذ أعوام استقرت جنائز قتلى حوادث السير السنوية على أربعة آلاف قتيل وما يزيد قليلاً، وتضاعف عدد الجرحى ذوي الحالات الحرجة أربع مرات تقريباً، أكثريتهم يحتفظون بذكرى جروحهم بعاهات مستديمة، ليشكّلوا قوام حوالى 15 ألف معوّق. 13 قتيلاً يومياً تعادل هذه الأرقام، بالنسبة إلى بلد يعيش فيه أكثر من ثلاثين مليون نسمة، إهدار حياة 13 شخصاً يومياً في حوادث السير وإصابة شخص واحد كل سبع دقائق."تطبيع مجاني مع الموت"أو"اتهتار بالحياة والصحة والأمان والاستقرار". تختلف التسميات الساخرة في حضرة العقد الأممي للحد من حوادث السير، فيما ينحو المغاربة نحو جعله عقداً لإطلاق عنان القتل على الطرقات. تطبع قيادة معظم السائقين في المغرب همجية واضحة، وكأنهم يتعطشون إلى الدماء. قوانين السير الجديدة، مهما زادت صرامتها عن السابقة، لا تردع قادة العربات المؤمنين بأن القوانين وُضعت لتخرق. يتساءل المغاربة في ما بينهم، لماذا يقود الناس في بلد هادئ كالمغرب حرباً أهلية ضد بعضهم بعضاً من دون كراهية وبغضاء في ما بينهم ومن دون أدنى رهانات؟ أي روح فتاّكة تركبهم حينما يركبون عرباتهم؟ لماذا لا يفكرون في حقن الدم والعيش في الأمن والسلم؟ السيارة سبب مباشر للقتل ب 14 مرة أكثر من نظيرتها في فرنسا. ليست هذه مقارنة لأجل المقارنة، ففضلاً عن كون عدد سكان فرنسا يساوي ضعف سكان المغرب، فإن جلّ السياح الأجانب الذين يستقبلهم المغرب فرنسيون، ومراكش والجنوب عموماً وجهتهم المفضلة. وقد تحركت الإليزيه والحكومة والسفارة والإعلام الفرنسي للاطمئنان إلى وجود مواطنين فرنسيين على متن الحافلة القاتلة، من عدمه. يلقى اللوم على حال الطرق وضعف البنية التحتية للشبكة الوطنية، لكن المعطيات حول ظروف حوادث السير وأسبابها تفضح العامل البشري وتحمّله مسؤولية التسبب في أكثر من 80 في المئة من الحوادث نتيجة للتهور والسرعة وعدم احترام الأسبقية وإشارات الضوء الأحمر والوقوف والسير في الاتجاه الممنوع، عدا عن حال العربات الميكانيكية المتقادمة والتساهل والفساد في المؤسسات والأجهزة العمومية المكلّفة بالمراقبة التقنية والطرقية. قلق السياح على سلامة حياتهم وأمنهم على الطرق، له كلفة اقتصادية مهمة وغير مباشرة، في حين أن الكلفة الاقتصادية المباشرة التي يتكبدها المغرب سنوياً في خسائر الأرواح، وصعوبات إعادة تأهيل الضحايا تفوق 12 بليون درهم... وتظل الكلفة الاجتماعية أعلى بكثير وآثارها تمتد على أجيال.