ماكس فيبر واحد من أبرز رواد الفكر السوسيولوجي في القرن العشرين. عمل طويلاً على الإطار"المفاهيمي"لعلم الإجتماع بصفته العلم الذي يحاول فهم سلوك الأفراد وتطور المجتمعات من خلال تأويل -وتفسير- الأسباب التي أدت إلى تطوره. وما زالت مقولات فيبر عن الدين، والسياسة، والعلاقات الاجتماعية، والطوائف، وغيرها تثير حماسة الباحثين وطلبة الدكتوراه. بيد أن الدراسات الاجتماعية العربية المعمقة عن ماكس فيبر بقيت محدودة للغاية رغم كثرة الترجمات، وهي غالباً ما جاءت غير دقيقة في تحديد مقولاته ومفاهيمه النظرية المنشورة اساساً باللغة الألمانية. وكثيراً ما حصلت التباسات عدة في ترجمة تلك المفاهيم إلى العربية بسبب تعدد استخداماتها لدرجة التنافر أحياناً بين مشرق العرب ومغربهم. يعتبر كتاب"الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"من أكثر كتب فيبر التي تم تداولها مترجمة إلى العربية. أما كتاباته الأخرى، وهي غنية ومتنوعة، فنادراً ما حظيت بترجمة دقيقة إلى العربية. ومن أبرز مؤلفاته:"رجل العام ورجل السياسة"،"والعلم والسياسة بوصفهما حرفة"، و"الكونفوشيوسية والطاوية"،"والاقتصاد والمجتمع"، وأبحاث سوسيولوجية في الأديان"،... أثارت مقولات فيبر عن علاقة الديني بالسياسي الكثير من النقاش. وكان دائم البحث عن الأسباب التي قادت إلى التطور الإجتماعي بمختلف جوانبه، وعدم توصيفه بصورة جزئية أو الركون إلى المقولة الماركسية عن البناء الفوقي والبناء التحتي. فحركة التطور ذات طابع شمولي، والمطلوب تحليل علاقة السياسي بالديني بالتزامن مع تطور المجتمع في مختلف حقب التاريخ. في هذا السياق شكل كتاب إكرام عدنني"سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر"الذي أعد أولاً كأطروحة دكتوراه"، وصدر حديثاً عن منتدى المعارف في بيروت، مناسبة لإستعادة مقولات فيبر في هذا المجال. وذلك في الإطار المنهجي لسوسيولوجيا ماكس فيبر، وسوسيولوجيا السياسة والأديان، وقضايا المنهج، ومفاهيم السياسة، والزعامة، والقوة، والسيطرة، والأخلاق، ونماذج من الديانات العالمية. وتم التذكير بمقولات فيبر، مع الحرص على توصيفها ومقارنتها مع مقولات علماء الإجتماع والفلاسفة الغربيين من أمثال أوغست كونت، ودوركهايم، وهيغل، وكارل ماركس، وغيرهم. والسؤال الأساسي الذي يستثير النقاش في العالم العربي منذ عقود ينصب على تحليل ظاهرة الأخلاق أو القيم الدينية في علاقاتها بالنظام الاقتصادي في الدول الغربية، بخاصة في التاريخ الحديث والمعاصر. فقد تدامجت الرأسمالية مع الأخلاق البروتستانتية في أكثر من دولة غربية في حين تزداد الدعوة في الدول العربية والإسلامية إلى توظيف السلف الصالح أو القيم الأخلاقية في خدمة رأسمالية ريعية ترفض الإستثمار في مجالات تطوير الانتاج والقوى المنتجة. لذا تبدو الرأسمالية الغربية بمظهر العقلانية، لكنها بقيت في المجتمعات العربية والإسلامية ضمن دائرة التبعية، والإثراء غير المشروع، واستخدام كل أشكال الفساد لتجميع ثروات طائلة وتوظيف معظمها خارج العالم العربي. يكفي التذكير بأن إحصاءات غير رسمية قدرت الثروات التي كان يملكها القادة العرب الذين اسقطتهم انتفاضات 2011 الشعبية، بأكثر من ثلاثمئة بليون دولار. فالقيادة السياسية مسؤولة في شكل مباشر عن كرامة الفرد وتطور المجتمع في المفهوم الفيبري. ومن أول واجباتها إنصاف الفرد، وتأمين حقوقه الشخصية عبر المساواة مع الأفراد الآخرين. وليست الفردانية في المفهوم الفيبري مجرد كلام عاطفي عن حقوق الإنسان الطبيعية، بل تعبر عن إنتماء الفرد الحر الى مؤسسات إجتماعية يعيش في داخلها، ويمارس حرياته الأساسية إلى جانب أعضائها، وتضمن له المساواة والعدالة. وتلعب الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية والعمالية، والمؤسسات الاجتماعية المتنوعة دوراً اساسياً في تظهير سلوك الفرد وتصرفاته. ميز فيبر بين نوعين من الأفراد البارزين داخل تلك المؤسسات: فئة الذين نجحوا في إمتلاك الثروة من خلال مؤسساتهم وأعمالهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وفئة الذين اتيحت لهم فرصة الدخول إلى مؤسسات السلطة فشاركوا بفاعلية في الصراع من خلال التمسك بها والاستمرارية في ممارسة السيطرة على الأفراد التابعين لهم. في إطار الفردانية يتميز الأفراد من حيث الجاه، والمكانة العالية، والوضع المالي المتميز، والموقع في السلطة. وأضاف إليها فيبر أبعاداً ثقافية وإجتماعية كالتعليم، والخبرة، والمكانة أو الوجاهة، والموقع الإقتصادي، والنسب والعائلي، وغيرها من السمات المكونة للفردانية. ونظر فيبر إلى الأحزاب السياسة في الغرب بصفتها تجمعاً"مؤسساتياً"يحمل راية الدفاع عن مصالح إقتصادية وسياسية وإجتماعية معينة من دون أن تكون لها هواجس دينية أو أخلاقية. الفرد والسلطة تقوم سوسيولوجيا المعرفة عند فيبر على وعي الأفراد لأعمالهم الإجتماعية. ويتحدد خضوعهم للسلطة في المجتمعات المتطورة بدوافع ذاتية تجاه الحاكم. فعندما يشعر الفرد أن السلطة عادلة وتؤمن له حاجاته الأساسية ينتسب إليها طوعاً وينفذ قراراتها بحرية. لذلك شدد فيبر على سلوكيات الأفراد الفاعلين بصفتها تصرفات عقلانية من دون أن يولي الإهتمام الكافي بالمفاهيم الجماعية التي غالباً ما تكون غير عقلانية وانتقد المنظمات الشمولية إنطلاقاً من أن الفرد فيها، يخضع لها بمثابة سلطة إكراه نظراً لأولوية المؤسسة الشمولية على الفرد. أخيراً، رأى فيبر أن سيرورة الحياة الحديثة تميزت في الغرب وحده بالعقلانية وإزالة الأوهام والفكر الغيبي نتيجة التطور العلمي والتقني الذي عرفه الغرب. فخصوصية التاريخ الغربي مرتبطة بالعقلانية التي شكلت السمة البارزة للحضارة الغربية على مختلف الصعد الاقتصادية والإجتماعية والسياسية والإيديولوجية. فتحرر الغرب من الأوهام وتعويذات الفكر الغيبي، وبنى عالماً خالياً من السحر والشعوذة من دون أن يتخلى عن نظرة عقلانية الى الدين. انطلقت الثقافة الغربية من مقولة علمية ترى أن الثقافة الحديثة هي صراع ضد الثقافة الكهنوتية وليس ضد الدين. فتصالح في داخلها المقدس مع العقلاني بعد أن أزيل عن المقدس طابعه السحري الذي يشده دوماً إلى الماضي الذهبي. وتبلورت مفاهيم الشرعية بمستوياتها الثلاثة: التقليدية، والكاريزماتية، والعقلانية. وهي تشكل مجتمعة ركيزة اساسية لدى فيبر في تفسير سوسيولوجيا الدين والسياسة وما يتبعها من مفاهيم الدولة، والقانون، وفصل السلطات، والتجمع السياسي او الأحزاب، والإكراه السلطوي أو إحتكار الدولة للعنف، والطاعة، والقبول أو الإكراه المشروع لسلطة القوة، والسيطرة وغيرها. طرح ماكس فيبر مجموعة تساؤلات منهجية تحتاج إلى جهد كبير من علماء الإجتماع العرب، ليس لتكرارها طالما أنها معروفة عالمياً، بل لتوطينها ضمن دراساتهم المنشورة بالعربية وإغنائها من خلال الدراسات الإمبيريقية العربية. فكيف يمكن الحفاظ على علمية المعرفة عربياً مع ربطها بالواقع الاجتماعي؟ وكيف يمكن الوصول إلى معرفة علمية عربية تتجاوز الخصوصية والفرادة؟ وكيف يمكن التعاطي مع التعددية الفوضوية للظاهرات الفردانية العربية في الدين والسياسة معاً؟