يواصل الباحث المغربيّ خالد بلقاسم الحفر في الخطاب الصوفيّ من أجل الكشف عن محتمل هذا الإرث وما يختزنه من آفاق تأويليّة واسعة. ففي كتابه"الصوفيّة والفراغ"الصّادر حديثاً عن المركز الثقافيّ العربيّ، يتناول الباحث بالدرس كتاب"المواقف والمخاطبات"للنفري، متأملاً على وجه الخصوص مفهوم الفراغ فيه بصفته تجربة تنشد الأقصى وتستشرف الماوراء كما سنبيّن لاحقاً. سببان اثنان دفعا الكاتب للعودة إلى هذا الكتاب هما: قابليّة خطاب النفري من حيث بناء الكتابة لاستقبال أسئلة جديدة. فهو خطاب، كما يقول الكاتب، مهيّأ من هذا الوجه للانفصال عن ذاته، ومشرع على التجدّد وتجديد الأسئلة متى توجّهت القراءة إليه من أمكنة معرفيّة وفلسفيّة حديثة. محاولة شق مسلك تأويليّ جديد في قراءة كتاب النّفري بما يساهم في"تخصيب المعنى وتحيينه". يؤكّد الباحث أنّ كتاب النفري، مثله مثل الأعمال الكبرى، لا ينطوي على حقيقة في ذاته، مستقلّة عن قارئه... فحقيقة الكتاب تتمثّل في الآفاق الجديدة التي تفتحها القراءة معه... ومن ثمّة لا وجود لمعنى نهائي يمكن القارئ أن يمسك به،"فالمعنى هنا ليس إلاّ سيرورة تحوّله. سيرورةٌ هي التأويل ذاته". فكتاب النّفري كتاب غامض، ليل لا بارقة ضوء تنيره، حتّى ليبدو، كما قال الكاتب، كما لو أنّ النفري كتبه لنفسه". ثمّة مناطق قصيّة في هذا الكتاب، مناطق متمنّعة على الفهم، لكنّ هذه المناطق بالذات هي التي تتيح للقراءة أن تكون. وقد أشار الصوفيّة إلى أن الغموض أو المنع متى فُتح باب الفهم عطاء في ذاته... فالقراءة هي الإقامة في الملتبس الغامض والبحث فيه عن ضوء يخبّئه. يهتمّ الباحث أوّل ما يهتمّ ب"الوقفة"في كتاب النفري بصفتها التجربة التي بها وفيها أقام على حافّة المستحيل... فهي، على حدّ تعبير النفري،"سفر بلا طريق"حيناً و"سفر وعر"حيناً آخر... لم يقتف الباحث خطى من سبقوه في تحليل معنى"الوقفة"وإنّما نظر إليها من موقع أنطولوجيّ مختلف. فهي، في نظره، تجربة مع المستحيل ومجاهدة تبتغي استنبات الممكن في هذا المستحيل. فبالوقفة يتطلّع النفري إلى الانسلاخ عن حدوده البشريّة ليرتفع إلى المطلق. ولمّا كان الارتفاع إلى المطلق أمراً غير ممكن، يصبح الهدف، عبر الوقفة، اكتساب بعض صفات هذا المطلق، ويكون ذلك عبر مفاهيم معيّنة مثل الاستخلاف، والأمانة، والولاية... ويتوغّل الباحث في كتاب"المواقف..."ليضيء على ما تعتّم من مصطلحاته ومفاهيمه. ويتأنّى على وجه الخصوص عند مفاهيم"الطريق"و"السوى"و"المكان والزمان"... ليصل، مستعيناً بتلك المفاهيم إلى العلاقة القائمة بين"الوقفة والفراغ". يقرّ الباحث بأنّ مفهوم الفراغ يكتسي أهمّية بالغة في خطاب النفري، لكون هذا المفهوم"مؤسّساً على تجربة مشدودة إلى الأقاصي وموجّهة برغبة الخروج من الحدّ والتقيّد". وإذا جاز لنا أن نتحدّث عن معنى الفراغ، فإنّ معناه عند النفريّ"ألاّ ترتبط بشيء، وألاّ تبحث عن شيء، وألاّ تنتظر شيئاً... إنّها منطقة حرّة لتأسيس تعالٍ ينطلق من توقيف الأحكام وتعليق الكون ومن جعل ذات الواقف تكتشف ما يحجبها عن نفسها"... ومن ثمّ شدّد على أنّ الفراغ قوّة واتّساع ونور... فالفراغ ليس فارغاً وإنّما هو ممدّ وواهب. الفراغ امتلاء. لكن تجربة الفراغ لا تتاح إلاّ لمن ركب مشاقّها واعتصم"بصبر لا يشيخ". مستعيناً بكلّ هذه المفاهيم، يتأمّل الباحث"نمط الإدراك في الوقفة"ويتأمّل، على وجه الخصوص، مفهوم الرؤية، فيقول إنّها ارتفاع نحو المطلق وهي، في ضوء ذلك،"ملامسة للأقصى بما تقتضيه من فراغ وتطهّر وتعال". إنّها"تجربة على تخوم المستحيل... فيها يلامس الواقف أقصى ممكنه...". لكن كيف يفصح الواقف عن هذه التجربة؟ وأيّة أجناس أدبيّة يمكن أن يتوسّل بها؟ يقرّ النّفري بعجز اللغة عن حمل أعباء تجربته... بل ربّما ذهب إلى حدّ اعتبار الحرف حجاباً لا يكشف بقدر ما يخفي..."قال لي: الحرف يعجز عن أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عنّي"... هكذا قال النفري وهو يقف على عجز اللغة عن"قول ما لا يُقال"، فغاية النفري تتمثّل في دفع اللغة إلى القبض على"ما يتملّص وينفلت..."، لكنّها تخفق في ذلك... هذا الإخفاق حوّله النفري إلى"موقع لإنتاج معنى متملّص... إنه المعنى الذي تهيّأ من ملامسة اللغة لأقصى ممكنها... وهذا ما جعل الكتابة تجربة وعرة تتحقّق في الحدود بصفتها إخفاقاً منتجاً. وقد تجلّى هذا الانفلات وتمنّع اللغة على مستوى الشكل في"الشذرات"، هذه النصوص القصيرة المتقطّعة التي تتخلّلها فراغات وبياضات يُدعى القارئ إلى ملئها. يقول الباحث:"بالتقطّع انتظم خطاب النفري، بل إنّ التقطّع هو ما يبني إيقاع الكتابة كاشفاً عن خيبة خصيبة ناتجة من اصطدام الكتابة بالمنفلت ومن انتسابها إلى أفقه"... هذا الكتاب يؤكد أنّ الآثار الصوفيّة بعامّة وكتابات النفري، على وجه الخصوص، لا تزال مفتوحة على شتّى التأويلات والقراءات... فهي مهيّأة، وفق طبيعة لغتها، وطرائق تصريف القول فيها، كي تحيا"حيوات متعدّدة ومتجدّدة"... على حدّ عبارة الباحث. وما هذا الكتاب إلا احتمال دلاليّ من جملة احتمالات أخرى ممكنة.